آخر الإدراجات

سميائيات الأصولية الدينية خطاباتها، بلاغتها وقوتها الإقناعية

سميائيات الأصولية الدينية خطاباتها، بلاغتها وقوتها الإقناعية

تأليف: ماسيمو ليوني ترجمة: عبد الله بريمي

العنوان الأصلي للكتاب

Massimo LEONE

SÉMIOTIQUE
DU FONDAMENTALISME
RELIGIEUX

MESSAGES, RHÉTORIQUE, FORCE PERSUASIVE

2014

مقدمة المترجم

 نقدم لقراء العربية ترجمة واحد من أهم الكتب التي تناولت ظاهرة الأصولية الدينية في عصرنا الحاضر من حيث مفهومها وخطاباتها وصيغ تداولها في مجتمعاتنا المعاصرة وطرق إقناعها، يتعلق الأمر بكتاب سميائيات الأصولية الدينية خطاباتها وبلاغتها وقوتها الإقناعية لمؤلفه الإيطالي ماسيمو ليوني في طبعته الأولى سنة 2014. وما يميز هذا الكتاب، عن غيره من الأعمال التي تناولت الظاهرة الأصولية، سواء في بعدها التاريخي أو الاجتماعي أو النفسي أو السياسي أو الاقتصادي أو حتى الحقوقي، هو تركيزه المفصل على بلاغة الأصوليات الدينية، وعلى استراتيجياتها الإقناعية والظواهر الثقافية التي تنتجها وخاصة ظاهرة اللغة الأصولية، وعلى الطريقة التي تظهر وتصور بها المسار الوجودي بالنسبة لأولئك الذي يجعلون منها أسلوب حياةٍ.

ولتفكيك سنن الخطاب الأصولي الديني والآليات التي يوظفها، فقد اعتمد ماسيمو ليوني على السميائيات لإظهار كل التمفصلات الممكنة للمعنى لحظة انبثاقه وتداوله وتلقيه؛ يتعلق الأمر بمفهوم السميوزيس في أبعاده الدينامية والتأويلية. وقد اعتمد  بشكل خاص على السميائيات التوليدية (غريماص وهيلمسليف) والتأويلية والثقافية (إيكو بورس) وسميائيات الكون (يوري لوتمان)، اعتمادا على مرجعياتها النظرية سواء من حيث أسسها المعرفية الناظمة لتصوراتها، أو من حيث القوة التجريبية لنماذجها الإجرائية التي تسعى لتحليل التفاعلات بين الأنساق الثقافية. فالبناء السميائي للثقافة هو نسق من القواعد السميائية التي تتحول بها تجربة الحياة اليومية إلى نموذج. وإن الوظيفة الأساسية للثقافة هي التنظيم المشكِّل للكون المحيط بالكائن البشري. ويصطلح على هذا الكون في أدبيات يوري لوتمان، تحديدا، كونا سميائيا يشتغل بناء على معطيات الذاكرة الجماعية، ويجعل الحياة ممكنة خارج بعدها النفعي والبيولوجي وهو ما يعني امتلاك أفراد جماعة بشرية ما، داخل نسق ثقافي محدد خطاطة للكون أو خارطة طريق من شأنها إظهار بنية العلاقات التي تربط هذه المجموعات بالمحيط المصاغ سميائيا، والتي تلعب فيه اللغة دورا محوريا في صياغة وتنميط هذا الكون.

 إن النموذج النظري الذي اعتمده ماسيمو ليوني في مقاربة خطاب الظاهرة الأصولية الدينية غاية في الدقة والتجريد، فهو يرتبط  تصوريا مع مجموعة من المفاهيم المتقاطعة، مما جعل إمكانية استثماره أثناء التحليل أمرا مهما خاصة وأن هذا النموذج السميائي يعدّ صيغة للتحليل الشمولي للأنساق الثقافية وإضاءة للمبادئ البنيوية للسميوزيس، وعبره نستطيع الانتقال من التحليل الثابت والمحايث إلى التحليل الدينامي، إنه فضاء لتوليد المعنى.  

لقد خلق لنا هذا النموذج حوار نظريا، وذلك بهدف رصده للآليات الإقناعية والأشكال البلاغية المتنوعة والمتعددة التي تعتمدها الأصوليات الدينية في تصريف مواقفها وإيديولوجياتها التي تلبس لبوس الدين من أجل السيطرة على العقول الشابة، وكيف تتحول هذه العقول في رمشة عين إلى عقول أصولية متطرفة في منازلها وأمام شاشات حواسيبها دون عناء، مستغلة بكيفية متحمسة حداثة هذه الوسائل التقنية، ولكن لكي تحارب تكنولوجيا وإيديولوجيا الحداثة التي ما انفكت، هذه الأصوليات الدينية، وما فتئت تشكك في منظومة قيمها. ولم تكتف الأصولية الدينية بهذا التشكيك، بل لقد سعت إلى رفض كل المفاهيم الحديثة حول الدولة ومسألة تداول السلطة وحق المجموعات في المشاركة في الحكم بصرف النظر عن دينها وجنسها، وتكريس الحقوق السياسية والإنسانية في الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون، وهي مبادئ أتت بها التطورات السياسية الحديثة بعد نضال قادته شعوب متعددة وكرسته في منظومة حقوق الإنسان تحت عنوان تحقيق الديمقراطية وحق الشعوب في الوصول إلى إنجازاتها. ويأتي هذا الرفض تطابقًا مع التمسك بأفكار الماضي واعتباره المقياس الذي يجب أن يقوم عليه الحاضر فكرًا وممارسة مع تغييب كل مظاهر التحول الزمني. إن الحلم المثالي لهذه الأصوليات ليس إيقاف التاريخ وأحداثه فقط، بل هو، بشكل خاص، شلّ الحرية التأويلية لجماعة دينية ما، وتعدّ هذه النقطة الأكثر خطورة في الخطاب الأصولي المعاصر، خاصة عندما يتعلق الأمر بقراءة النصوص الدينية. فالأصولي الديني، هاهنا، هو أقوى حامل للعنف؛ فما إنْ يتيقّن أن فكرته هي وحدَها الفكرة الصحيحة حتى يجيز لنفسه الادعاء بأنه وحده يمتلك الحقيقة، فيقتنع بأن الله قد أوكل إليه مهمة الدفاع عنها، وبذلك لا يأخذ على عاتقه واجب تكفير من يخالفه الرأي وحسب، بل وواجب قتاله أيضًا. إن الأصولي الديني العنيف، يعمل دون كلل، أيضا، على بلورة المعنى عبر أفعاله: وعندما يستحيل الإقناع يلجأ إلى القوة. ولتفعيل هذا الإقناع، لجأت الأصوليات الدينية إلى خلق استراتيجيات خطابية للسيطرة على الأغلبية العظمي من الشباب تبدّت في توظيفها للخطاب الديني في صيغته البسيطة والمختزلة، وهو خطاب  ينبني في جوهره على خلق التنافر والمعاداة والتناقض تجاه الخطاب المعاصر والحداثي. ويتمثّل هذا الخطاب هويته وشرعيته من الفتاوى التي تبيح العنف والقتل، بهدف إخضاع رغبة المجتمع الحداثي في التطور للرجوع إلى الوراء عن طريق الترهيب والتقتيل، واستعمال كل أنواع الانتقام الأشدّ كراهية. وسواء اختارت هذه الأصوليات اليهود والمسيحيين والمسلمين وغيرهم، هدفا لعدوانيتها، فإن ما يهم فيها ليس هو الهوية العرقية أو الدينية للأعداء الذين تواجههم، ولكن في الحقيقة لأن لديها عدوا ينبغي مهاجمته، عدو يجسد مبدأ الغيرية يقوض وينسف مصدر رزق هذه الأصوليات.

إن السميائي، مع ذلك، لا يشتغل فقط بطريقة استنباطية، انطلاقا من التحليل المجرد للمعجم الأصولي وحقوله الدلالية، ولكن أيضا بطريقة استقرائية، عبر الملاحظة المنهجية للواقع الاجتماعي. وما يمكن للسميائيات أن تقدمه، أيضا، لدراسة هذه الظاهرة لا يكمن في تحليل الأسباب التي كانت وراء دفع المئات من الشباب للانضمام إلى معركة جهادية.إن السميائيات، بالمقابل يجب، أن تقترح قراءة للآليات الإقناعية التي كانت أولا وراء استقطاب وغواية وجذب هؤلاء الشباب إلى كون تأثير الأصولية الإسلامية تحديدا، وكيف اقتنعوا أيضا بالتخلي عن كل شيء للمخاطرة بحياتهم باسم الجهاد. لذلك فقد كان منطلق مؤلف هذا الكتاب بارزا وصريحا، حيث يدرك أن الزعيم أو القائد الأصولي الديني، لا يمكنه البتة الوصول إلى هذه عقول هؤلاء الشباب، والزّج بهم في غياهب مصير الفتك والتدمير والإبادة بكل معانيها، والدفع بهم إلى الانخراط في تنظيمات متطرفة واستئصالية إلا إذا كان عارفا ملمّا بكل تفاصيل وحيثيات حيوات هؤلاء الشباب: النفسية والاجتماعية والمهنية والثقافية التي تكشف عن وضعهم وانتماءاتهم الطبقية. وتعدّ هذه التفاصيل غاية في الدقة والأهمية، تساعد الزعيم الأصولي وحاشيته على بلورة خطاب بلاغي لفظي أو سمعي بصري، تكون الغاية منه إبراز خصائص الأصولية بوصفها «مقترحا لأسلوب حياةٍ». إن هذا الخطاب يمتلك قوة إقناعية فائقة، في التعبير عن نفسه دون كلل، مثلما هو الحال عليه في الخطاب الدعائي الإشهاري. فإذا كان الخطاب الإشهاري يمنح هوية و يسعى إلى الحصول على لذة عبر سراب أو وهم الحرية. فإن الخطاب الأصولي يشيد الانتماء ويحث ويحرض على السعادة عبر وهم الحاجة.

إن الأساسي في الانتماء للتنظيم الأصولي الديني ليس هو فقط الظفر «بالشهادة» بوصفها حلما وقيمة متعالية، بل العوالمالتي تغلّف بها هذه «بالشهادة»، وما يؤثث هذه العوالم من قيم رمزية واستعارية تتسرب بطريقة واعية أو لا واعية إلى عقل هذا الأصولي الديني. إن هذه العوالم جزء لا يتجزأ من كون أو ثقافة يبرمج وفقها هذا الأصولي سلوكه، استعداد منه للانضمام لهذه الجماعة المتطرفة أو تلك. إن هذا ما يدفعه للقتال أو الانتحار بتفجير نفسه اعتقادا منه أنه بذلك يصنع فارقا! وهذا ما يشير إلى مفارقة غريبة في تاريخ تحكم هذه التنظيمات بكل أشكالها، في سلوك الأتباع وترويضهم وتوجيههم وفق غايات نفعية غير معلنة تخدم مصالحهم ولا علاقة بما هو ديني. إن المعنى الذي يُسنَد لقيمة «الشهادة»  أو ما يناظرها من القيم المتعالية، لا يمكن أن يدرك بصورة فعلية إلا من خلال تحقق هذه القيم وتجسيدها في أدوار أو وظائف داخل تنظيمات ومؤسسات تخرج هذه القيم من تجريديتها وتمنحها وجها محققا، وذلك بإعطائها مضمونا وصبّها في وعاء يتم من خلاله تحديد السياق أو التلوينات الثقافية التي تخصص هذه القيم وتخرجها من لا زمنيتها المطلقة إلى زمن ومكان محددين: إنه زمن ومكان «الاستشهاد». ويتبوّأ الفضاء في هذا النموذج السميائي أهمية استثنائية، بل حاسمة لتمثيل العالم الخاص لثقافة هذا الأصولي، فبانغماسه الدائم في فضاء ثقافي ما، يخلق دائما حول نفسه كونا فضائيا منظما.

إن هذا التحول من المجرد «الشهادة» إلى المحقق «الاستشهاد» داخل فضاء جغرافي ما، هو تحول لا يتم عن طريق الصدفة، بل هو تحول محكوم باستراتيجية تنظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة سميائية وتداولية يتحكم فيها محفِلا الإنتاج والتلقي؛ أي كيف ينتج زعماء هذه التنظيمات المعنى وكيف يتلقاه الأتباع. إنها استراتيجية تتعلق بما هو خطابي، أي بنحوٍ لتوليد المعنى واستثماره في وقائع ملموسة دالة. يتعلق الأمر بتعريف المجموعة وارتباطها بعدو يلزم محوه وإبادته من جهة، وتعريف الفرد في ارتباطه بفكرة «الشهادة» من جهة أخرى، وهو تعريف وجودي متطرف يتحيّن عبر تحويل الفرد وغسل دماغه والانفصال التام عن الأسرة الأصل والهجرة إلى «أرض الجهاد» والانضمام إلى «أسرة» أصولية جديدة ثم عبر القتال والبحث عن موت بطولي. إن ما تقدمه الأصوليات، رغم ذلك، باعتباره خطابا للتعالي، ليس، في الغالب، سوى بلاغة تخفي بُعدَ الاستغلال والهيمنة وبناء السلطة وتسلسلها الهرمي.

إن الوصول إلى أي جماعة، حيث كل تجلّ أو ظهور لها يكون باهتا إلى حد التخلص منها؛ يصنع كائنا بشريا لا يمكن أن يكون سوى ناقل سلبي لتقليد أو تراث ديني يمكن النظر إليه هو الآخر باعتباره ناقلا ساكنا للتعالي: إن هذا ليس مجرد حلم، بل هو بلاغة لها مفاهيمها وآليات اشتغالها. فعندما نحلل بنية السلطة التحكمية داخل الجماعات الأصولية، بما فيها السلطة الجوهرية للتواصل داخل الجماعة وخارجها، فإننا نلاحظ على الفور بأن آثار إيديولوجية التجلي تبقى مترسبة في نمط حياة وعيش الأصولي وغالبا ما تشغل مكانة أساسية لديه. فالجماعات الأصولية، في كل الأديان، ليست جماعات دون زعيم، على العكس من ذلك، إن العناصر الفاعلة، يمكن التعرف عليهم داخل التنظيم انطلاقا من الأدوار التي تسند إليهم بوصفهم زعماء رأي وأمناء على التقليد الحقيقي، بما فيهم القادة العسكريون عندما يتعلق الأمر بجماعة في ميدان القتال. إن هؤلاء الزعماء يختارون ويتخذون قرارات وينتقون ويحددون المناسب من الخيارات ويؤولونها. ومع ذلك فإن قوة الإقناع لديهم ترتكز على موهبة خارقة وكاريزما لا تعتمد على بلاغة التجلي، بل على بلاغة التكرار على حدّ رأي ماسيمو ليوني: فكل ما قام به الزعيم، وقاله، وأمر به يُقدم لا بوصفه خيارا  ولكن بوصفه نتيجة منطقية لمسار المعنى الذي يحدث مباشرة دون بدائل ممكنة للتعالي.

إن مقاربة الظاهرة الأصولية من منظور سميائي يحمل في ذاته مزايا متعددة نجمل بعضها فيما يلي: ففي المقام الأول، تجعلنا السميائيات نتعرّف على النواة الوجودية للأصولية وتحديدها بكيفية دقيقة منفصلة عن الخطاب الديني الخاص الذي تلْبَسه. وبعبارات أخرى، يسمح لنا التعريف السميائي المجرد للأصولية بالتعرّف كذلك على بنيتها العميقة، أي إيجاد طريقة للنظر وتشخيص المعنى الذي يوجد في كل العقائد الدينية وحتى الذي يوجد فيما وراءها. إن الأصولية هي رد فعل على الحداثة المتطرفة لأنها تعبير جوهري عن يوطوبيا الحتمية المطلقة وعن بشرية تحاول أن تتجنب عبء الاختيار، وعن عدم اليقين في الحرية. إن هذا المقاربة تسمح لنا كذلك، بمعرفة الاقتضاء والشرط الأنثربولوجي للأصولية، الذي يعدّ بدوره شرطا ضروريا لفهم قوتها الإقناعية: فإذا كانت الأصوليات الدينية قادرة على استقطاب الناس وتحويلهم إلى مرتدّين بشكل متزايد، فلأنها تمنح للأفراد أسلوب حياةٍ، لم تستطع معها المجتمعات الغربية والعربية القدرة على اقتراح ما يلبّي الحاجيات الأنثربولوجية العميقة للبشرية.

إن الطريقة الوحيدة لتقويض السلطة الإقناعية للأصوليات، لا يمكن أن تكون إلا عبر تفعيل سلسة من الإجراءات الاجتماعية والثقافية التي تهدف إلى تغيير المنظورات الوجودية للمراهقين في المجتمعات الغربية والعربية على حدّ سواء.

عبد الله بريمي

مقدمة خاصة بالترجمة العربية

تلقيت  ببالغ السرور الترجمة العربية لكتابي سميائيات الأصولية الدينية التي قام بها الزميل عبد الله بريمي أستاذ السميائيات والتأويليات بجامعة «مولاي إسماعيل» مكناس، الكلية المتعددة التخصصات الرشيدية، المغرب.

فمن طبيعة الإنسان أن يشعر بمتعة عندما يرى فكره وكلامه منتشِرا داخل لغة مختلفة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تشكل اللغة، العربية، التي ظهرت بها هذه الترجمة الجديدة، مزيدا من التحفيز ونوعا من الرّضا، ولكن أيضا مزيدا من التفكير. إن الديانة الإسلامية اليوم، وكذا، العربية، لغة نصّها المرجعي يشكلان معا إيحاء أكثر شُبهة في «العالم الغربي». وكأن بين هذه الديانة وهذه اللغة من جهة، والعنف باسم هذه الديانة وداخل هذه اللغة المنتشرة في العالم من جهة أخرى علاقة جوهرية، لا انفصام لها. إننا اليوم، عندما نتحدث مع غير المتخصصين في أوروبا، ونعلن لهم دراسة بلاغة الأصولية الدينية، فإن السؤال الذي يُطرح هو السؤال نفسه دائما وهو: هل تتكلمون العربية؟ وهل تقرؤونها؟

إن واحدة من بين نتائج هذا الكتاب الذي نقدمه هنا للنسخة العربية هي إظهار، عبر الأدوات السميائية، أن الأصولية الدينية لا تتطابق ضمنيا مع ديانة أو لغة ما؛ إنها تتبع، على العكس، ما اصطلح السميائيون على تسميته «أسلوب حياة ما» أو، بصيغة أفضل، «إيديولوجيا سميائية»، أي طريقة لإعطاء معنى للحياة. إن الأصولي، وهذه هي أطروحة الكتاب الأساسية، ينتمي إلى إيديولوجيا سميائيات التكرار، وحُلمه المثالي هو إيقاف ليس فقط التاريخ وأحداثه، بل هو، بشكل خاص، شلّ الحرية التأويلية لجماعة دينية ما. إن الأصولي الديني العنيف، يعمل دون كلل، أيضا، على بلورة المعنى عبر أفعاله: وعندما يستحيل الإقناع يلجأ إلى القوة.

إن حكومات العالم بأسره، الذين يتساءلون في الوقت الحاضر عن الطريقة المثلى لإظهار هذا العنف التأويلي والجسدي، سوف لن يصلوا أبدا إلى أيّ حلّ إذا هُم استمروا في الاعتقاد بأن مصدر هذه الإيديولوجيا السميائية هو شيء يجب البحث عنه في الدّين أو في لغة ما. وعلى العكس من ذلك، إن الدين واللغة ليسا سوى موردين أو وعاءين رمزيين، تتم تعبئتهما، وغالبا ما يُساء استعمالهما، لتلبية غريزة أنثربولوجية أعمّ من ذلك بكثير. وتظهر هذه الغريزة مرارا وتكرارا في التاريخ، في رحم لغات وديات مختلفة، وفي جدلية عنيفة أحيانا مع الإيديولوجية السميائية للبروز. ووفقا لهذه الأخيرة، التي تتعارض مع الأولى، فإن المعنى لا ينبثق من تكرار، أو من طقس، أو من تقليد ما، بل من ابتكار ومن تغيير أو حتى من فصله عن الأصل.   

إن هذه الجدلية بين إيديولوجيا التكرار وإيديولوجيا البروز كانت موجودة دائما وربما ستبقى إلى الأبد. إن الشيء الجديد في هذه النسخة الحالية يتمثّل، أولا، في الوسائل التكنولوجية التي تقوم بتنفيذها. فهناك البلايين من النصوص المتداولة في الشبكات الاجتماعية تشكل اليوم الحلَبة الأساسية التي تسعى من خلالها الإيديولوجية الأصولية الدينية وعنفها للبحث والعثور عن أتباع. وثانيا، فإن جدّة هذه الظاهرة تكمن أيضا في حقيقة احتضانها بكيفية متحمسة حداثة هذه الوسائل التقنية، ولكن لكي تشكك في إيديولوجية الحداثة. إن الآلاف من الشباب الأوروبيين، والعديد منهم لا تربطه صلة بالثقافة العربية الإسلامية، قرروا الانضمام إلى مقاولة العنف للدولة الإسلامية. لماذا يفعلون ذلك؟  إن سبب ذلك يجب البحث عنه ليس فقط في رفض لغة أو ثقافة ما، بل في رفض إيديولوجية المعنى وفي إرادة إعطاء معنى لحياتهم ولحياة جماعتهم عبر استراتيجية جديدة وجذرية تماما، تتمثّل في التخلي عن كلّ ما هو حرية واختيار وتداول بما في ذلك الأفكار الحديثة والشاملة للمسار المهني والحب الرومانسي والديمقراطية. إن الشاب الأصولي اليوم يحلم بعالم خالٍ من الاختيار، حيث كل تعريف يمتح بثبات ودون اعتراض من القراءة الواحدة المقبولة للنص الواحد المقدس المقبول.

إن عدم فهم الأهمية الوجودية لهذا الحلم معناه إقبار كل مبادرة تهدف إلى الحدّ أو تقويض الدعاية الأصولية العنيفة. إن المعركة التي ينبغي توظيفها ضد هذا الصنف الإيديولوجي ليست، في الواقع، عسكرية، بل، هي قبل كل شيء، سميائية. لذا ينبغي أن نفهم الأسباب الوجودية للأصولية العنيفة بإظهار جذورها في مدارات الحداثة، وربما عبر الإشارة إلى طريق جديد لأولئك الذين ينخرطون، اليوم، في مسار الظلامية والعنف.  

يجب أن نظهر في نهاية المطاف، بأنه يمكننا العودة إلى الأصول الروحانية دون العثور، بالضرورة، على ما يدمّر الإنسان، بل العكس، نكشف عن كلام التحرر الذي وعدت به كل الأديان. إن البحث عن الإنسانية في أصول الدين:  إن هذه بالذات هي الوصفة التي يلزم اتباعها لنزع فتيل أيّ تأويل عنيف عن المقدس.

ماسيمو ليوني

أسئلة الانطلاق وصعوبات التطور

يطرح هذا الكتاب سؤالا بسيطا ومركبا في الوقت نفسه وهو: كيف نجحت الأصولية في إقناع الأفراد، خاصة من هم في سنّ الشباب، بتبنّي رؤيتها للعالَم، والالتزام بنشرها، والانخراط لنصرتها سياسيا واجتماعيا وثقافيا، والدفاع باستماتة كبيرة من أجل قراراتها، حتى وإن كانت تتعارض مع قوانين الدولة عبر القول والفعل العنيفين؟

إن أول صعوبة، جوهرية، يواجهها هذا البحث تتمثل في إظهار أن الأصولية ليست موضوعا اجتماعيا واضحا ودقيق المعالم، بل هي بدلا من ذلك، كلمة يُطابقها تعريف دلالي متغير، وتختلف هذه الدلالة حسب مجالات التداول الاجتماعي للمعنى، والتي تتطور بسرعة مع مرور الوقت وارتباطا مع أحداث الحياة السياسية الوطنية والدولية. ومع ذلك فإن فهم حدود هذه الدلالة أمر لا غنى عنه للتحكم في موضوع البحث وفي تحري الدقّة حول ما يترتب عليها من آثار في الواقع الاجتماعي: فماذا نقصد اليوم «بالأصولية»؟ وما هي التمثّلات المعرفية والانفعالات والمقاصد التداولية التي تُثار في مختلف الأوساط الاجتماعية عندما يستعمل هذا المصطلح؟

إن السميائي، مع ذلك، لا يشتغل فقط بطريقة استنباطية، انطلاقا من التحليل المجرد للمعجم وحقوله الدلالية، ولكن أيضا بطريقة استقرائية، عبر الملاحظة المنهجية للواقع الاجتماعي. هل يمكننا إذن أن نفهم خصائص الأصولية بوصفها «مقترحا لشكل الحياة» أو باعتبارها «رؤية كونية»[1]لها صلة وثيقة ومحددة بمواقف نفسية واجتماعية؟

للإجابة عن هذا السؤال الثاني لا ينبغي لعملنا أن ينحصر في تدوين ما قصدته القواميس والموسوعات وباقي خزائن المعنى المشترك «بالأصولية»، بل يلزمنا النظر أيضا في مسألة شائكة وأكثر أهمية: يتعلق الأمر بأعراض الأصولية وعلاماتها وطريقة اتصالها بالعالم، ألا تتجلّى هذه الأعراض وهذه العلامات حتى في المجالات والدوائر والمؤسسات التي كنّا نعتقد أنها محصنة تماما، وفي مأمن تامّ من هذه الظاهرة؟ هل يمكننا أن نكون أصوليين دون وعي منّا أو دون أن يثير هذا الأمر انتباه أو استفزاز محيطها الاجتماعي؟ تعدّ الإجابة عن هذا السؤال الثاني غاية في الأهمية لا سيما وأنها تكشف عن الكفاءة التوقّعية للتحليل السميائي المهتمّ ليس فقط بتصوير ماضي وحاضر الحياة الاجتماعية، بل بتطورها ومستقبلها: فهل يمكننا بفضل السميائيات كشفالأعراض المبكرة للتوجه الاجتماعي الذي يُظهر رؤية «أصولية» للعالم قبل أو حتى دون أن تتمّ تسميته بذلك؟   

إن السميائيين دائما ما يلقون نظرة مزدوجة حول وقائع الحياة الاجتماعية: فهُم يدرسون الكلمات، وباقي أشكال التعبير الإنساني لفهم دلالتها، وبعد ذلك يتساءلون عن بنية المعنى لفهم أفضل لكل تجلياته.

أما الصعوبة الثانيةالتي يجب على البحث أن يواجهها فهي صعوبة، خارجية، وتتعلق بمتغيرات وطوارئ الحياة الاجتماعية وبتطورها. وبتركيزنا على المحيط الاجتماعي الفرنسي أو الفرنكفوني، فإن التحقيق في هذه الطوارئ عرف تطورا مسرعا بسبب الأحداث الاجتماعية والسياسية التي عرفتها فرنسا سنة 2014 والتي أثرت على مشهدها الثقافي وساهمت في إعادة تشكيل توجهات أخرى، بما في ذلك التوجهات التي يمكن إدراجها، افتراضا، في مجال الأصولية.

ومن بين هذه الأحداث نورد الأساسي منها:

  1. نشر القوات العسكرية الفرنسية وتدخلها في مالي ابتداء من 11 يناير 2013؛
  2. المواجهة الحادة بين الكوميدي الفرنسي الساخر ديودوني مبالا مبالا[2] مع السلطات الفرنسية حول عرضه المسرحي الجدار التي بلغت ذروتها مع قرار مجلس الدولة المنعقد بتاريخ 9 يناير 2014؛
  3. تطور جمعية La Manif pour tous (التظاهر للجميع) ومظاهراتها الاحتجاجية والتي كان آخرها يوم 2 فبراير 2014؛
  4. إجراء حملات الانتخابات البلدية بباريس لسنة 2014، (23 – 30 مارس2014)؛
  5. ردود الأفعال والمظاهرات الاحتجاجية ضدا على التدخل العسكري الإسرائيلي في غزة؛
  6. إعلان الدولة الإسلامية في 29 يونيو 2014.

ولئن كانت هذه الأحداث تُبدي تباعدا فيما بينها، فإن هذه الظواهر السابقة تظهر- في عيون مراقب أجنبي اهتم منذ أمد بعيد وبحذق بالثقافة والمجتمع الفرنسي الفرنكفوني و ينظر إليها من زاوية سميائية صرفة – بعض خطوط التوتر « لسمياء الكون »[3] الفرنسي المعاصر، لهذا لا بدّ من معرفة الكيفية التي تمكن فرنسا الحالية وبشكل أعمّ الدول الفرنكفونية من البناء والتفاوض الدائمين حول معنى الهويات الفردية والجماعية والانتماء الثقافي والعرقي والديني، وخاصة معرفة العلاقة بينها  وبين ما هو «آخر» مختلف، غير مندمج أو الذي لا يقبل الاندماج، والذي يُنظر إليه باعتباره عدوا يلزم محاربته، والظفر به.


[1] -ترجمة للمصطلح الفلسفي الألماني Weltanschauung يقوم المفهوم في أساسه على دراسة مجموع الأفكار التي يعتنقها أحد أفراد المجتمع عن ذاته وعن الآخرين وعن العالم الذي يعيش فيه. وبتعبير آخر، فإن مفهوم رؤية كونية أو رؤية العالم” هي الطريقة التي ينظر بها شخص ما أو جماعة ما إلى الكون ككل والتي يرون من خلالها هذا الكون. ومن معاني الرؤية الكونية أنها عبارة عن (مجموعة من المعتقدات و النظرات الكونية المتناسقة حول الكون و الإنسان بل و حول الوجود بصورة عامة). وعلى ضوء هذا المعنى، يمكن أن يعتبر النظام العقائدي و الأصولي لكل دين هو رؤيته الشاملة. (لمترجم)

[2] – ديودوني مبالا مبالا Dieudonné  M’bala  M’bala   ممثل، فكاهي ساخر وناشط سياسي فرنسي، اشتهر بنقده لليهود، الأمر الذي تسبب له في محاولة منع عروضه من قبل وزير الداخلية مانويل فالس بدعم من الرئيس فرانسوا هولاند. هذا وقد سبق منعه من وسائل الإعلام الفرنسية وحظر عروضه. منعت المحكمة العليا الفرنسية عرضه المسرحي “الجدار” قبيل افتتاحه. وأيدت المحكمة، التي تسمى مجلس الدولة، الحظر المفروض على العرض الذي كان مقررا تقديمه في مدينة نانت لكن محاميه قالوا إن حرية موكلهم في التعبير انتهكت. اتهم الفنان المسرحي بالترويج لكلام عنصري ومعاد للسامية وهو بذلك يهدد النظام العام لأنه مرتبط “بالانفعال الناجم عن إهدار كرامة الفرد.” ويعتقد أن عرضه الساخر الجديد “الجدار” سيتضمن إشارات ساخرة لليهود. ويرفض سياسيون ومثقفون وإعلاميون فرنسيون اعتبار ما يقدمه ديودوني في عروضه “حرية التعبير” بل هي “كراهية” كما وصفها برنار هنري ليفي. بينما يعتبر ديودوني أنه ضحية رقابة من السلطة بسبب أفكاره التي لا تمت إلى كراهية اليهود بصلة. وعبر عن ذلك “أنا ضد الصهيونية التي تستمد وجودها من كلمة معاداة السامية التي ترعب الناس، لكنني لست وحدي فكثير من اليهود في العالم يشاركونني هذا الرأي والنضال”. يوصف الممثل بأنه “استفزازي”، وقد أثار الجدل في أكثر من عمل، بفعل تناوله لقضايا حساسة، لكن إشارة اليد الشهيرة أو الذراع الممتدة” “كونيل” La quenelle” التي ابتكرها، في مسرحيته “الجدار” كانت الأكثر تأثيرا، وانتشرت في الأوساط الشبابية، حتى أن لاعب كرة القدم الفرنسي الشهير نيكولا أنيلكا قلدها في الدوري الإنجليزي مثيرا بدوره جدلا. وسيتم الحديث عن هذه الإشارة وتحليلها بشكل هامّ في الفصل الخامس  من هذا الكتاب: سميائيات كونيل (المترجم)

[3] – إن سمياء الكون  Sémiosphereفي نظرية  يوري لوتمان السميائية هو نموذج يتم بموجبه إنتاج ونشر المعنى من لدن ثقافة ما.

  إن بناء يوري لوتمان لهذا المفهوم جاء نتيجة تمثله مفهوم الكون الحيوي biosphère  لفرنادسكي، ويتحدد باعتباره الفضاء الضروري لوجود واشتغال لغات مختلفة، وليس مجموعة من اللغات، إنه فضاء قبلي، سابق عن اللغات. ويشكل المنطق الثنائي واللاتناظر قانونين أساسيين لضمان انسجامه النسقي  ويرتبط سمياء الكون تصوريا مع شبكة من المفاهيم، جعلت منه مفهوما غنيا متعددا وإشكاليا وهي :1 – سمياء الكون صيغة للتحليل الشمولي للأنساق الثقافية، 2 – سمياء الكون إضاءة للمبادئ البنيوية للسميوزيس، 3  – سمياء الكون انتقال من التحليل الثابت إلى الدينامي، ومحاولة لفهم التعالق بين الشمولية واللاتجانس، -سمياء الكون فضاء لتوليد المعنى؛  4 – سمياء الكون والكون الحيوي يمتلكان قابلية التوليف المفهومي، فالثقافة سيرورة وليست بنية.  

    للمزيد ينظر: LOTMAN (Y), On the semiosphere, tra Wilma Clark, Sign Systems, P.33. 2005.  (المترجم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.