تأليف: ماسيمو ليوني ترجمة: عبد الله بريمي
انطلقنا في هذا التحقيق بنهج مزدوج. فقد حاولنا من جهة، فهم البنية الدلالية لكلمة «أصولية» في فرنسا والبلدان الفرنكفونية الحالية. وقد تطلب منا هذا البحث إنشاء مدوّنة كبيرة من النصوص الشفهية المتداولة في سمياء الكون الفرنسي والفرنكفوني المعاصر، والتي ساهمت في التعريف الجمعي لكلمة «أصولية». وقد تشكّلت هذه المدوّنة انطلاقا من العديد من الأنواع والأشكال والسياقات الخطابية. ووفاء لتراث علم الدلالة البنيوي، فقد شرعنا في هذا التحقيق بالتحليل العميق للقواميس والموسوعات وباقي أدوات التعريف المعجمي والثقافي المُتاحة حاليا في المجتمع الفرنسي والتي يؤخذ بها كمصادر مرجعية.
لقد قمنا بجرد كل القواميس الأساسية، فضلا عن الموسوعات الأكثر تداولا، لمعرفة الكيفية التي استطاعت بها هذه النصوص تحديد ومفصلة المجال الدلالي المرتبط بكلمة «أصولية». كما حاولنا نقل ولو جزئيا، بطبيعة الحال، معنى هذا المصطلح كما ورد في الاستعمال العادي للغة الفرنسية المعاصرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشبكة الدلالية، التي تمت بلورتها انطلاقا من هذه الأدوات المرجعية المقتبسة والتي تمت مفهمتها عبر المنهجية السميائية، قد جرت مقارنتها بطريقة نسقية مع أجزاء الخطاب الجمعي في استعماله العادي واليومي لكلمة «أصولية»، ومع الكلام الذي يُظهر ويُعدِّل في الوقت نفسه مواقفه الاجتماعية انطلاقا مما تأتي به الكلمات ومعناها. وقد تطلبت هذه المقارنة عملية أكثر دقة تتبدّى في إنشاء مدونة متعددة وغير متجانسة مقارنة مع ما هو موجود في الصناعة القاموسية. ولذلك، أين نبحث، عن الدلالة العادية لكلمة «أصولية»، بما أنها تتشكل وتتطور انطلاقا من كمّ هائل من الاتصالات المحدودة، وهي اتصالات قادرة على إحداث تأثير داخل المجتمع الفرنسي الحالي؟
إن اعتماد مُدوّنة متعددة الأشكال والأنواع والسجلاّت سمح لنا بمواجهة هذه المسألة بنهج عقلاني. لأن الهدف لا يتبدّى في تحليل كمّي لمتن أو مدونة شاملة – بشكل غريب عمّا هو سميائي- ولكن في صياغة افتراضات نوعية حول الإشعاع الدلالي لكلمة ما، لذلك شيّدنا متنا هرميا انطلق من نصوص حضورها في سمياء الكون أكثر بنينة – أجزاء من الخطاب الإعلامي مثلا- إلى نصوص تخاطب وتستهدف، بحكم طبيعتها، جمهورا أكثر خصوصية، وتنشر، بالتالي، صياغة أقل شيوعا مما ورد في الحقل الدلالي للأصولية كما هو في آراء الباحثين مثلا.
وقد طَفتْ على السطح بعض النتائج الهامة من خلال المقارنة بين التحديد القاموسي والموسوعي لمفهوم الأصولية من جهة، وراهِن الحقل الدلالي المدروس من جهة أخرى. ذلك أن معظم القواميس التي قمنا بفحصها تركز على أن الأصولية:
- باعتبارها ظاهرة تاريخية واجتماعية وُلدت مع بداية القرن العشرين في الثقافة الدينية البروتستانتية الأمريكية.
- تشير، بالإضافة إلى ذلك، إلى الارتباط الوثيق والصارم بالمبادئ التي تؤسس حسب الأتباع والمريدين الاعتراف الديني بأصولها.
وقد قدم قاموس لاروس، مثلا، مقترحا لتعريف الأصولية نورده على النحو الآتي:
- الأصولية هي تيار لاهوتي من أصل بروتستانتي، تطور في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الأولى، وهو تيار يأخذ فقط بالمعنى الحرفي للكتب المقدسة. ويتعارض مع كل تأويل تاريخي وعلمي إنه يتمسك بالوثوقية والثباتية.
- هي تيار أتباع ديانة ما، يعودون في هذه الديانة لما يعتبرونه أصلا وأصيلا.
وهناك العديد من الخصائص التي ينبغي الإشارة إليها في هذا التعريف. يتعلق الأمر في المقام الأول بكون هذا التعريف لا ينحصر فقط في الإشارة إلى الأصل التاريخي لظاهرة الأصولية، ولكنه يقترح أيضا تعريفا «تقنيا» أي تعريفا مرتبطا بالممارسات التأويلية السائدة في الدوائر الأصولية. وهكذا فقاموس لاروس يذهب في اقتراحه إلى أن الأصولية الدينية تتطابق مع نزعة تأويلية، وبشكل أخص مع النزعة الوثوقية الثابتة التي لا تتجاوز القراءة الحرفية للنصوص المقدسة. ويعدّ هذا الاقتراح هامّا، كما سيشار لذلك لا حقا، فهو يشير إلى تطابق الأصولية مع ممارسة نصية، وبشكل أدقّ مع ممارسة تقرأ النصوص بطريقة تتعارض مع القراءة التي تعتمد مناهج التاريخ أو علم النص.
أما في المقام الثاني وتحديدا في الجزء الثاني من التعريف الذي أعطاه قاموس لاروس للأصولية، فإننا نجده يقترح فهم دلالة هذه الأصولية باعتبارها شيئا مرتبطا «بديانة ما» فهو يلقي بالمقابل ضوء إيجابيا أو على الأقل محايدا حول الظاهرة، مشيرا إلى أنها تركز وتلحّ على «العودة لما يمكن اعتباره أصلا أصيلا». فلا أحد من القواميس والموسوعات التي باشرناها أثناء البحث والتحقيق قد فصل تعريف الأصولية عن أصلها الديني. أي ليس هناك نص أصلي مرجعي لا يلمّح إلى إمكانية وجود أصولية سوف تتطور في المناخ العلماني.
إننا عندما نقارن المصفوفة المفهومية التي رسخها التعريف القاموسي والموسوعي مع التصور الذي شاع عن كلمة «أصولية» في الاستعمال اللغوي، فإننا نلاحظ باستمرار وجود تصورين يبدوان إلى حدّ ما جذريين: فمن جهة، هناك تصور يرى أن كلمة «أصولية» في المخيال الفرنسي الفرنكفوني المعاصر ترتبط، منهجيا، بديانة ما وبشكل خاص بالإسلام، مع عدم تمييزها داخل هذه الديانة بين تيارات متعددة تشكل نسيجها الداخلي المتنوع جدا؛ ومن جهة أخرى قلّما نربط – ماعدا في الحالات التي سنناقشها أكثر- الأصولية الإسلامية بصورة إيجابية، أو على الأقل محايدة، ترتبط بالبعد المعرفي في البحث عن الأصول اللاهوتية والروحية والوجودية والتاريخية كذلك، وقلّما نقوم ببذل مجهود من أجل فهم المنبع العميق للديانة. ففي المخيال الفرنسي والفرنكفوني الحالي كما يظهر وكما تغذيه الوسائط الإعلامية، نجد أن الأصولية، جوهريا، لا ترتبط بالمحيط المعرفي واللاهوتي بل بالبعد الانفعالي والتداولي. وبمعنى آخر أن تكون أصوليا في المخيال الفرنسي الحالي فهذا لا يقتصر فقط على الجانب اللاهوتي والروحي، بل، أساسا، على دور اجتماعي يتسم بسيادة الموقف الانفعالي تجاه العالم وتحديدا بسيادة سلسلة من المقاصد والمشاريع والغايات التي تهم الدولة الاجتماعية وعلاقاتها ومؤسساتها. وبشكل عام إذا كانت الأصولية في لغة مؤلفي القواميس والموسوعات تمثل ظاهرة ثقافية وموقفا فكريا في المخيال المشترك، فهي بدلا من ذلك، تشكل تهديدا ومصدرا للصراع وضدا على الذات.
ولفهم هذه المسألة بطريقة أخرى، لا بدّ من الإشارة، في الإطار النظري للسميائيات التوليدية، إلى أن المخيال الفرنسي والفرنكفوني المعاصر قد اخترق من قبل توجه قيمي قوي إزاء الأصولية. وقد نشأ هذا التيار تاريخيا في رحم المسيحية البروتستانتية الأمريكية ويحضر باعتباره موقفا فكريا في جميع الثقافات الدينية، وليست تلك التي تُنسب إلى الإسلام فقط، ولا يدرك إلا باعتباره تجليا لقوة معادية ومنخرطة في صراع أكثر أو أقل وضوحا مع أو ضد فرنسا (وضد الغرب كذلك). وبعبارة أخرى، فإن الأصولية في سمياء الكون الفرنسي المعاصر لا تشكل فقط جزءا من حقل دلالي لمخيال ما، ولكنها جزء من حكاية وسرد يستطيع بواسطته أفراد الثقافة الفرنسية عبر أقوالهم ونصوصهم، النظر إلى هذه الظاهرة بوصفها قوة وبوصفها عاملا اجتماعيا قادرا على جلب صراع إيديولوجي طويل الأمد، على الأقل في المخيال المشترك الذي تتقاسمه الأغلبية، وهو صراع حاسم في مصير الثقافة الفرنسية. وباستثناء خطاب المتخصصين فإن استهجان وازدراء الأصولية واتهامها باعتبارها انحرافا عن الحضور الديني الإسلامي في فرنسا موجود في كل مكان. أما عندما يتعلق الأمر بغير المتخصصين، بمن فيهم الباحثون الجامعيون، فالكل يجهل الأصل التاريخي للظاهرة ووجودها في عقائد أخرى. كما أن احتمال تأثير سمياء الكون العلماني عبر أشكاله الخفية في الأصولية قد تم استبعاده مسبقا.
إن ثقافات أخرى ولغات أخرى تتخذ مواقف مخالفة تجاه الأصولية. ففي سمياء الكون الأمريكي المعاصر مثلا، نجد أن الذاكرة التاريخية لأصل هذا التيار، وكذا حضوره الدال في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلد، يُظهر بمعنى ما أن التساوي بين دلالة الأصولية والإسلام ليست منهجية كما في فرنسا.
فما هي أسباب وتداعيات هذا التباين المشار إليه من قبل التحليل السميائي بين التعريف الموسوعي والصناعة القاموسية لكلمة ومفهوم «أصولية» من جهة، وبين المخيال الذي أحاط بالمفهوم في الاستعمال اليومي من خلال العلامات الدالة عليه من جهة أخرى؟ يمكننا أن نشير، عبر نهج افتراضي، إلى أن الفاصل الزمني بين الاستعمال الدلالي والصياغة المعجمية لهذا المفهوم لعب دورا حاسما في توليد هذا التباين. حيث يشير إلى السرعة الحديثة لميلاد توجه ثقافي مرتبط بوجود الإسلام في فرنسا وبالمخيال الذي يغذيه. وإن لهذه التداعيات أيضا أكثر من دلالة. وبالمقارنة مع الفهم العالِم والأكاديمي للأصولية فإن «المخيال الشعبي» يكشف عن قصوره المتزايد في نظرته إلى،
- الأصولية الإسلامية باعتبارها تمظهرا لموقف فكري روحي قادر على، التأثير في جلّ أو كل الثقافات الدينية وعلى مجالات غير دينية تنتمي إلى الحياة الاجتماعية.
- اعتبار الأصولية معطى أنثربولوجيا محايدا، دون تحميله إيحاءات عدائية سبقت الإشارة إليها.
وكما سنبرز لا حقا، فإن حضور هذا الموقف الثقافي في مركز سمياء الكون الفرنسي المعاصر، شكل عنصرا محوريا في إقامة حلقة تواصلية مفرغة، ساهمت في تجذّر تدريجي للعزل الإسلامي عن المحيط الاجتماعي الفرنسي وما ترتب عنه من تطرف لمنظومة القيم المنفعلة والقلقة التي يمثل بموجبها المخيال الفرنسي الفاعلية الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص، للأصولية الإسلامية.