آخر الإدراجات

سميائيات الأصولية الدينية.. الأصولية بوصفها أسلوب حياةٍ

سميائيات الأصولية الدينية.. الأصولية بوصفها أسلوب حياةٍ

 تأليف: ماسيمو ليوني ترجمة: عبد الله بريمي

بعدما مساءلتنا النقدية للحقل الدلالي الخاص بمصطلح أصولية في اللغات الغربية، ولا سيما في اللغة الفرنسية، وبعد انتهائنا من المراجعة الشاملة للإحالات البيبليوغرافية التي أُنجزت حول الأصولية في الفترة الأخيرة، فإن البحث انخرط في تفكير سميائي خاص حول هذه الظاهرة. إن الحاجة لوجهة النظر هذه، يعدّ شيئا بديهيا انطلاقا من المرحلتين السابقتين من التحقيق. فمن جهة، نورد أن التغيير الذي يلحق الحقل الدلالي للأصولية يقتضي منّا وضع إطار نظري قادر على توضيح المعطيات الأساسية للظواهر التي تتبدّى في هذا المجال الثقافي: أي هل بوُسعنا، رغم كل الاختلافات الناجمة عن خصوصية السياقات الدينية والتاريخية والجغرافية والسوسيوثقافية، تحديد نواة مركزية سميائية وظاهراتية تنتظم حولها كل هذه الاختلافات، وتؤدي إلى إحداث«جوّ عائلي«يمكن الكشف عنه في كل هذه التجليات التي تهمّ المعنى الديني؟ بمعنى آخر، هل نستطيع تحديد الجوهر الوجودي للأصولية الدينية؟ ومن جهة أخرى، نورد أن الإحالات البيبليوغرافية السابقة تُظهر بوضوح أنه رغم، غنى وتنوع هذه الأدبيات التي تنحو منحى تصاعديا، فإنها غالبا ما كانت تنحصر في صياغة فرضيات حول الأسباب التي تربط الأصوليات بمقتضيات اجتماعية وسياسية. لقد كانت هذه الأدبيات، في الغالب، تقترح تعديلا يجتثُّ الأصولية الدينية من جذرها ويفصلها عن مصادرها وتأثيراتها الجانبية غير المرغوب فيها. ورغم أن هذا المنظور لا يعتبر الأصولية، في جوهرها، ظاهرة دينية، وبالتالي تجلّيا من تجليات المعنى واللغة، فإنه يظلّ غير قادر على إفهامنا طبيعتها الأنثربولوجية ومن ثمّة يكون غير قادر كذلك على تطوير معرفة مناسبة بالأسباب العميقة التي تستطيع بفضلها الأصوليات تحقيق عدوى تواصلية واجتماعية. وبكلمات أكثر بساطة، فإن المنظورات غير السميائية لم تستطع إعطاء وزن حقيقي «لمتطلبات الأصولية» ولا إلى المكانة التي تشغلها داخل الأنثربولوجيا البشرية. ولتجاوز هذا القصور في المنظور، يلزمنا الانطلاق من تأمّل عام حول طبيعة المعنى الديني، حتى وإن كان هذا التأمّل، بالضرورة، تأملا مجردا.

إن كلّ معنى في السميائيات البنيوية يُنظر إليه باعتباره منتوجا ويتجلّى هذا المعنى انطلاقا من نسق الاحتمالات الكامنة. والنسق هو مجموع العلاقات التي يسود بينها نظام معين. إن مفهوم العلاقة، في الواقع، يَفترض النظام مسبقا، لأنه يمكننا أن نشير إلى أن الكاوس أو الفوضى المطلقة تعدّ شيئا مستحيلا في حالة المنطق الثنائي، وفي الحالة التي تكون فيها القوى الأحادية محدودة. أما عندما يتعلق الأمر بالوحدة فقط، فإننا نتحدث معها بشكل كلّي عن الاضطراب واللاّنظام. ويمكن لطبيعة هذا النظام أن تتغير، لكن باستطاعتنا تشخيص ذلك، عادة، عبر استعارة موضعية، حيث يغلب مثلا الانتظام على اللاّ انتظام والتناظر على اللاّ تناظر والانغلاق على الانفتاح والوضوح على الغموض، وغير ذلك من التغييرات التي تلحق هذا النظام… إن الفوضى واللاّ نظام هما معاً ممّا لا نستطيع أن نمثّل لهما رياضيا وبالتالي تمثّلا فضائيا وموضعيا. كما أن فهم المعاني الكامنة والمخزونة داخل هذا النسق معناه طرح ظاهراتية التجزيء في المعنى الذي يمكّن النسق من استنباطها انطلاقا من السمات التأليفية لتجلياتها، غير أن هذا النسق لا يُظهر هذه المعاني في صورتها الكاملة. وإن كل ما لا يظهر في النسق يبقى في حالة كمون افتراضي غير معبّرٍ عنه لكن رغم ذلك فإمكانية التعبير عنه لازالت ممكنة وقائمة.

ففي التصور البنيوي للغة، مثلا، يمكن لكل كلام أن يُفهم بوصفه تجليا انتقائيا لنسق أوسع حيث يكتشف هذا الكلام، في الوقت نفسه، بعض السمات التأليفية ويشير عبر استنباط ضمني إلى الاحتمالات الكامنة غير المتجلية. وتتأسس آلية التلفظ على هذه الحركية، التي تقوم بنشر ظاهراتية – لتوطيد إيديولوجية سميائية- تتعارض بشكل كلّي مع ظاهراتية الوحي. ونقصد هنا بالإيديولوجية السميائية ذلك التصور الذي يستبطنه أفراد ثقافة ما عن المعنى واللغة والتواصل. ففي الوحي كما هو في تصور معظم الثقافات الدينية، التي يلعب فيها دورا رياديا، فإن الكلّ ُيقال دفعة واحدة دون أن يتم التفكير بتاتا في تجزيء ما قيل. وبالتأكيد، حتى في التديّن الشعبي، فإننا نميل إلى التّسليم أن الوحي هو دائما غير كامل. ومع ذلك فإن هذا النقص يُعزى إلى عدم قدرة الإنسان على استيعابه له في كليته ومردّ هذا في غالب الأحيان إلى حالة ضعفه الأخلاقي أو شعوره بالخطيئة. ووحدهم علماء اللاهوت المابعد حداثيين إلى أورس فون بالثازار[i]، يسلّمون أن الوحي وجوديا نزل منجّما ومجزّأ إنه يخفي وينطوي على سرّ ما كلّما كان هناك كشف وإفصاح.

ففي تصورنا للمعنى المشكِّل للسميائيات البنيوية، نجد الأمر بخلاف ذلك، فالمعنى لا ينبثق من كلّية إيجابية، تظهر وتمارَس في التجلي، بل على الأصح ينبثق من كلّية سلبية تختفي في تجلّيها لكنها في الوقت نفسه تترك آثارا دالة عليها. وكما تصور سوسير فإن الكلام حدث جزئي مقارنة مع محيط السلبية غير المعبَّر عنها والمفترضة التي يطفو عليها هذا لكلام. ومع ذلك فإن هذا المحيط لم يتمّ تصوره على أنه ظلام دامس لا متناهي ولكنه بالأحرى بلّور لا نرى من لمعانه سوى أنوار جزئية والتي ما كان لها أن تحدث إلا انطلاقا من البنية الكاملة لهذا المنظور.

إن معنى الوحي جليّ وقابل للإدراك، لأننا نسلّم ونعتقد جازمين، أنه لا توجد طريقة أخرى لفهمه. فكلّ ما يمكن أن يتقرّر فقد قُرِّر، وكل ما لا يتجلّى كشيء دال فلا معنى له. وبخلاف ذلك، فإن معنى الملفوظ، يبدو واضحا ومفهوما لأن هناك علاقة تناظر، يمكن قياسها، تنشأ بين السمات التي يظهرها هذا الملفوظ وبين الكلّ الذي لا يشكل فيه هذا الأخير سوى جزء أو تعبير جزئي منه. ولتأسيس هذه العلاقة القابلة للقياس، يلزمنا التفكير في هذا الكلّ باعتباره نسقا، أي التفكير فيه باعتباره كلاّ عقلانيا. إن هذا يعني بالضرورة محدودية النسق، لكنها ببساطة، محدودية ليست عددية، بل هي، على الأصح، محدودية هندسية. ومن البديهي، حتى بالنسبة للمعنى المشترك، عدم التفكير في اللغة، بما في ذلك داخل الابستيمي البنيوي، على أنها مجموعة محدودة في الاتجاه الذي ستتألف فيه هذه اللغة بواسطة عدد محدود من العناصر؛ ولهذا فإن الإمكانية الوحيدة لإنتاج عدد لا متناهٍ من الأجزاء التي تُظهر النسق سوف يفنّد هذا الافتراض. وخلافا لذلك، فإن محدودية النسق تتمثّل في حقيقة أن كل تجلّ من تجلياته الكامنة واللامتناهية بشكل افتراضي يمكن أن تمتدّ إلى الكلّ؛ أي إلى كل ما يظهر ويتضح بفضل حساب أو قانون أو نسبة هندسية. إن هذا الافتراض هو الذي يؤسس مفهومية المعنى: فهو دائما جزئي ومجزّأ، ومع ذلك، فهو يفترض مسبقا كلّية تتعدد بطريقة منتظمة ومنظمة. إننا نستطيع فهم معنى النص لأن هذا المعنى ليس سوى ملفوظ لكلّية منتظِمة تؤسس لتوضيح أجزائه التي لا تُعرف إلا انطلاقا من ارتباطها والعلاقة بينها. إن افتراض هذه العلاقة الهندسية، في العمق، بين الإجراء والنسق، بين تحيين العنصر الكامن (س) والعناصر الكامنة غير المحينة التي تسمح في هذا الكمون بإظهار هذا العنصر (س) هو الذي يضمن إمكانية إدراك محايِث للمعنى. فالمعنى يمكنه أن يُدرك في محايثته لأنه يمكن النظر إليه ليس بوصفه وحيا نهائيا لكلّ لا نهائي، بل يمكن النظر إليه بوصفه تلفّظا لا متناهيا لكلّ متناهٍ.إذا كنا لا نفترض الطابع النّسقي للسلبية التي تختفي وراء الكلام، فإن هذا الأخير، لا يُقرأ إلا باعتباره نداء لأنطولوجيا هاربة ومُظلمة ولا عقلانية.

إن التأويلية الرومانسية، على سبيل المثال، تختلف عن تأويلية الوحي حيث تفترض الأولى فائضا لكل ما هو مسكوت عنه مقارنة مع تمظهره المجزأ والملغز، كما تختلف أيضا عن التأويلية البنيوية حيث لا تقتضي أي تقويم أو مقارنة بين تحيين المعنى وبين شكل أو مصفوفة الوحدات الكامنة غير المحينة. على العكس إنها تنفي وجود أي شكل أو قالب، يمكنه الوصول إلى تمجيد ليس فقط التنظيم الواضح والمحسوس لما لم يتم التعبير عنه، بل إلى تمجيد اللاّ التنظيم غير المفهوم لكلّ ما هو مسكوت عنه.

ومن جهة نظر سميائية واصفة، فإن التساؤل عن الخاصية المفضلة لهذه الإيديولوجية السميائية أو تلك شيء لا فائدة من ورائه. إن كل موقف تأويلي، في الواقع، يعبّر عن كمون أنثربولوجي للجنس البشري الذي يحاول أن يفرض نفسه أمام الطوارئ التاريخية والثقافية. و عوض ذلك، يجب أن نتساءل عن ماهية النتائج المترتبة عن كل إيديولوجيا في إدراكها للمعنى وترويجه وإجرائيته. وهكذا فإن كل موقف تأويلي قد أُسِّس على مسلّمات ولكن أيضا على أسئلة دون أجوبة. ففي حالة الإيديولوجيا البنيوية يكون المعنى هو المسألة التي نحاول تجنّب الخوض فيها أساسا: ولأن المعنى يتحين انطلاقا من نسق منظم، وبالإمكان قراءته أولا مقارنة مع الثاني بفضل مبدأ المحايثة الذي يضعهما في علاقة وفق منطق قابل للقياس الهندسي على الأقل. لذا فما هي القوة التي تدفع بعض عناصر النسق إلى التحيين، وتُبعد، بدلا من ذلك، العناصر الأخرى عن تأليف محتوى يتعارض مع ما تدلّ عليه العناصر الأولى؟ وبعبارات أخرى، عندما يؤكّد المعنى نفسه باعتباره اختلافا، فلماذا يؤكّد المعنى نفسه كمعنى، بينما العمق غير الدّال فيه، لا يفرض نفسه إلا بوصفه عمقا؟ فعندما تظهر صورة ما على الشاشة، فلماذا ننظر إلى الصورة، وليس إلى الشاشة؟ إن هذا السؤال، لا يملك إجابة نهائية، لكن يمكننا معالجته انطلاقا من مستويين مختلفين. المستوى الأول وهو المستوى، الأكثر تجسيدا، ونطلق عليه مستوى بروز المعنى أما المستوى الثاني، وهو الأكثر تجريدا، نستطيع أن نسميه «إيديولوجيا البروز».[ii]

فيما يتعلق بالمستوى الأول، فإن الحاجة إلى تفسير أصل البروز تطرح مشكلة داخل إطار نظري مبني على المحايثة. ويمكن تجنب هذه المشكلة عندما نحاول فهم المعنى في أبعاده السكونية الثابتة والتوليدية، لكن المسألة تصبح حاسمة عندما يتم النظر إلى المعنى، بدلا ذلك، في بعده الحركي والتكويني. إذ لماذا يتم تحيين بعض الممكنات في حين تظل الأخرى محتملة؟ إن التعبير عن هذا السؤال بمصطلحات علم الدلالة العميق يتبدّى في الحاجة إلى إعطاء تعليل لقيم النسق.

نظرا لوجود المعنى داخل مصفوفة تحدد آفاقه، ونظرا لطبيعته العقلانية – وتنظيمه الهندسي- فما هي طبيعة الرياح التي تهبّ على هذا المحيط من الإمكانات فتنتج التوتر ثم الأمواج التي تعبُر المسار التوليدي لتجتاح وتفيض على شواطئ التجلّي النصي ولتتبدّى كشيء بارز قياسا مع سطح المياه الهادئة؟ باستثناء الاستعارة، إن التساؤل عن القيم التي تنتج، داخل النسق، شبكة منظمة وذاتية من التحيينات والاحتمالات، معناه التساؤل عن الفاعلية التي تقف خلف المعنى. فهل بإمكاننا أن نعطي لهذا السؤال إجابة ما، في وقت لا تزال فيه هذه الإجابة نفسها قابعة داخل منطق محايث؟        

يمكننا أن نفكّر، بدلا من ذلك، أنه في الوقت الذي تحاول فيه السميائيات الحفر في عمق المعنى، فإنها تصل إلى قاعدة لا يمكن لهذه السميائيات إلاّ أن تخترقها بإنشائها لعلاقات بين النسق الآمر الذي يفترضه العِلم وبين قوى أخرى متعالية تجبره على الامتثال والخضوع لتبني قِيَمها والإقرار بها. حيث إن تفسير أصل التواء المعنى هو أول تحدي حقيقي بالنسبة لسميائيات ذات طبيعة محايثة. وهذا ما يدفعنا، لحدّ الآن، إلى استخلاص أمرين أساسيين.

أمر نكون فيه قد أنكرنا بشكل فظ استقلالية اللغة الواصفة السميائية وذلك بإخضاعها لمناهج تفسيرية أخرى. ذلك أن القيمة التي أظهرها النسق السميائي هي قيمة سيتم إحداثها، مثلا، بفعل قوة خارجة عنها، والتي ستحدد طبيعتها تدريجيا باعتبارها قيمة تاريخية واقتصادية واجتماعية… إن أولئك الذين يراهنون، مثلا، على إمكانية الجمع بين المحايثة السميائية مع الفرضيات السببية للعلوم المعرفية، قد أغفلوا، مع ذلك، مظهرا نظريا أساسيا وهو: أن المحايثة تُدمّر عندما نفتحها على السببية ونربطها بقوة تتجاوز النسق وتتعالى عليه رغم أنه هو الذي يحدد نظام القيم.

وبعبارات أخرى، لا توجد طريقة دقيقة للحفاظ على منطق المقايسة الهندسية لنسق محايث مع وضع هذا النسق تحت سلطة محددة لقوة متعالية، ليس بالمعنى الديني ولكن بالمعنى الذي لا يمكننا معه قياس تلك القوة مع النسق الذي تحدده. بهذه الطريقة،لم يعد التفسير السميائي سوى خدعة، وما يلزم أخذه بعين الاعتبار هو التفسير غير السميائي الذي يمكننا اختزاله والتحكم فيه. ويمكننا أن نقارن هذا الاتجاه بجهود أولئك الذين حاولوا الحفاظ على استقلالية المستوى الرمزي في التأويلية الماركسية: يتعلق الأمر، في الغالب، بزيف فكري دون غطاء نظري يدعمه. ففي كتاب “كانط وخُلد الماء”  يجعلنا أمبرتو إيكو نتعرف على أن البروز أو درجات الإدراك السميائي تكون مستمدة، في نهاية المطاف، من التواءات وطيات الكينونة، حيث يقترح في هذا الكتاب تأويلا سميائيا لهايدغر. ومع ذلك فما يقع في الأخير هو بالأحرى تأويل هايدغري للسميائيات، أي مزج هايدغري للسميائيات في الميتافيزيقا: فعندما نحاول تفسير أصل وتكوين المعنى في علاقته بأمر غير قياسي نكون قد دخلنا، فعلا، في تأويلية للوحي أو في تأويلية رومانسية.

أما الأمر الآخر، فيتجلى في كون الحل الذي يبدي تعارضا تاما مع ما سبق يبقى حلاّ لا ينظر إلى المعنى باعتباره واقعة سميائية لبعد غير سميائي، ولكنه بالأحرى حلّ «يستغل التعالي» انطلاقا من مجهوده الخارق في الإبداع اللساني الواصف. ولعل هذا هو ما ساهم في تشييد السميائيات الاجتماعية والأنثربولوجيا السميائية وبعض المنظورات داخل السميائيات الثقافية والسميائيات البيولوجية[iii]. ومع انبثاق مستويات الإدراك البارزة، مثلا، فإننا لا نتساءل عن القوة العصبية التي كانت وراء هذا البروز، لكننا نحاول تطوير رؤية محايثة وجوهرية لعلم الأعصاب، والنظر إليه باعتباره نسقا من المعاني. ونؤكد الشيء نفسه بالنسبة للاقتصاد: فلكي نفسّر البنيات أو التشكّلات الثقافية وتطورها في التاريخ، فإنه لا ينبغي لنا أن نربطها بعلاقات القوة المتعالية، المرتبطة بحركية السوق، على العكس من ذلك، فإننا نحاول وصف السوق، أو حتى الاقتصاد بأكمله، باعتباره نسقا سميائيا. إن هذا الخيار يتبدى، نظريا على الأقل، في الامتداد المتزايد لمجال الصراع الفكري السميائي. ففي كل مرة نحاول فيها العودة بتجليات المعنى إلى أصله التكويني المحايث، ونتساءل، في الوقت نفسه، عن القوى التي تحركه وتُسند له مجموعة من القيم، فإننا لا نتصور هذه القوى كشيء قابع فيما وراء المحايثة، ولكننا نتصورها كشيء داخل المحايثة أو بالأحرى داخل محايثة أعيد تأهيلها وتوصيفها وتوسيعها وتعقيدها للتوغل أكثر في عمق الفهم الفكري للغة الواصفة السميائية. 

ويعدّ المستوى الثاني مستوى أكثر تجريدا وقد عرفناه بكونه مستوى«إيديولوجيا البروز»، أو إيديولوجيا الإدراك السميائيويطرح هذا المستوى مشكلة أكثر تعقيدا مادام يُفضي بنا إلى بعد متناقض.إذا سلّمنا بأننا نستطيع تفسير أصل الاختلاف انطلاقا من معطيات نظرية تزداد تعقيدا للوصول إلى اعتبار أن كل ما يحيط بالمعنى  يمكن النظر إليه باعتباره جزءا داخليا من النسق المحايث الذي أنتجه، وليس باعتباره قوة متعالية خارجة عنه، فكيف نتصدى لسؤال الأهمية الرمزية للاختلاف؟لماذا يتمّ النظر إلى المعنى باعتباره منتوجا قيميا ولا يتمّ النظر إليه في غيابه؟ هل نحن مضطرون من منظور أنثربولوجي وبيولوجي للتجاوب ثقافيا مع الاختلاف لنجعل منه الركيزة الأساسية للمعنى؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة أمر أساسي لوضع ظاهرة الأصولية ضمن أنثربولوجيا سميائية عامة.

دون اختلاف، لا وجود للمعنى. إن هذا ما نكرره، دون ملل، لطلبة السميائيات في السنة الأولى بذكرنا لسوسير وهيلمسليف وغريماص. لكن التشديد على الاختلاف يكون في طريقة الإدراك السميائي والعناصر المركزية والبارزة التي تؤسّسه التي لا تميّز السميائيات البنيوية أو التوليدية وحدها. إن نموذج العلامة عند بورس كما أوّله وكشف عنه أمبرتو إيكو هو الآخر يملك نصيبا من هذا الاختلاف. فالدلالة عند بورس المعبّرة عن الوجود الإنساني تتوقف على وجود علاقة ثلاثية بين عنصر دالّ وموضوع مدلول ومؤوِّل يضعهما في علاقة وفق منظور خاص، ويتألف المؤول بدوره من عنصر دال وعنصر مدلول يدخلان في علاقة عبر مؤول جديد وهكذا دواليك في إطار سلسلة لا متناهية من الإمكانات. وتنبني الدلالة في نموذج بورس انطلاقا من سلسلة لا متناهية من العلامات يحيل بعضها على الآخر دون أن نتمكن من إيقاف تسلسلها. وقد اصطلح أمبرتو إيكو وسميائيون آخرون على هذه السميوزيس بـ «انفلات المؤولات». ودون أن نسير في الاتجاه الخاطئ لعلم النفس التحليلي، نستطيع أن ندرك جيدا أن هذا التعبير لا ينطوي على حياد تام. فالعلامات المؤولات يتم تمثيلها كما لو أنها لحن هارب للموسيقي باخ وتنشيط عصابي جوهري دائم يساهم في دفق ودفع هذه المؤولات إلى سطح المثلث السميوزيسي ونحو المجهول لتأخذ مسارا جديدا. وبالتأكيد فإن العادة في سميائيات بورس هي من يوقف هذا السباق اللامتناهي. وفي قوة هذه العادة التأويلية التي يتقاسمها مجتمع ما أو التي يعتمدها فرد ما، فإن التركيز على النموذج النظري يقع على زخم وقوة المؤول أكثر مما يقع على أهمية العادة. إن العادة تُدرَك وتمثّل، بدلا من ذلك، باعتبارها نوعا يساهم في تحجر المعنى وهو نوع لا مفرّ منه، لكن رغم ذلك لا زال يؤسف عليه باعتباره سكونا للسميوزيس التي تتخلى عنها الثقافات والأفراد عندما يستسلمون لحتمية الملل والتفكير التقني واليومي المألوف. وبالمقابل فإن سميائيات لوتمان هي ثناء على حركية المعنى وعلى الدينامية التي لا يمكننا السيطرة عليها لسمياء الكون وعلى المرونة الخلاقة لحدوده. إن النموذج السميائي لمدرسة طارطو يترك هو الآخر مكانا للسكون غير أنه يربطه مباشرة مع موت الثقافات ومع شللها في جسد لا روح فيه. وهكذا فإن كل الاتجاهات السميائية الكبرى قد صيغت وفق إيديولوجية سميائية لا يتمّ بموجبها النظر إلى المعنى دون علاقته الاختلافية: فالاختلاف هو الذي يؤسس الحركية القيمية ويجعلها أساس السردية عند غريماص، والاختلاف هو الذي يحرك تدفق المؤول ويخرجه من سجنه الثلاثي عند بورس، والاختلاف هو الذي يمتد ويتجاوز كل نطاقات سمياء الكون عند لوتمان. إن المسألة، هذه المرة، لا تكمن في تحديد ما إذا كانت هذه الإيديولوجيا مناسبة أم لا من وجهة نظر أخلاقية مثلا. ففي منظور السميائيات الواصفة، أي في الجهد المفارق لأنثربولوجيا الإيديولوجيات السميائية، فإن ما يهمّ هو الكشف عن الطابع التاريخي المحدَّد ثقافيا، ومن ثم الخاصية الاعتباطية لهذه الإيديولوجية السميائية المتمثلة في إيديولوجيا البروز. إن تأكيد هذه الإيديولوجيا هو في الواقع جزء لا يتجزأ من التطور السوسيوثقافي لمسألة شديدة التعقيد نحيل عليها بشكل سطحي بواسطة لفظة «الحداثة». فرغم جهود المؤرخين وعلماء الاجتماع، فإن السميائيات هي الكفيلة بتقديم تعريف نظري، وبالتالي تعريف كوني لمفهوم الحداثة: فالحداثة هي مجموع ظواهر المعنى حيث تكون الإيديولوجية السميائية المهيمنة هي إيديولوجيا سميائيات البروز أو إيديولوجيا الأشكال البارزة. فالحداثة تؤكد بوصفها شعورا دالاّ على التوتّر والانقباض كل ما هو تكرار ورتابة وانخراط غير واعٍ وثبات ونقص في الضغط الحركي وعدم وجود دافع للتغيير؛ إن الحداثة، بخلاف ذلك، ينبغي أن تؤكد على الفرح ونشوة الانزياح وكل ما ينتج بروزا بواسطة حركة لا يمكن التنبؤ بها أساسا.

تسمح لنا هذه الثنائية بربط مستويي التفكير السالفين اللذين حاولنا سبر أغوارهما. فمن جهة، نورد أن السميائيات البنيوية وجدت صعوبة في إدماج وصف داخل محايثة نموذجها التفسيري لأصل القيم أو الأكسيولوجيا، لأن هذا الأصل كما يبدو يتحول باستمرار خارج النسق المحايث. ومن جهة أخرى، وعلى مستوى آخر، يمكننا أن نتساءل عن السبب الذي يجعل هذه الصعوبة قائمة وهو: أن السميائيات المدعومة، بواسطة الإيديولوجيا السميائية للبروز أي بواسطة إيديولوجيا الحداثة، يجب أن تترك بالضرورة، المكان داخل نسقها، لإظهار التباعد والانزياح، هذا التباعد لا يمكن أن يجد أصله إلا في التعالي، أي في الحرية. وفي مواجهة مسألة تفسير أصل وتكوين المعنى تصطدم السميائيات بثنائية يذكرنا شكلها الخارجي عندما نقترب منها بالشكل الخارجي لمسألة لاهوتية النعمة. وتسلك هذه الثنائية مسلكين: الأول يتدفق فيه المعنى من تعالٍ لا يمكننا الإمساك به، رغم علمانيته، والثاني يتكوَّن داخل محايثة المسار التوليدي، رغم تناقضه مع الإيديولوجية السميائية البانية لكل النسق البنيوي، ثم كل النسق الحداثي، باعتباره إيديولوجيا سميائية للحرية. إن أولئك الذين يدرسون الأصولية الدينية وأولئك الذين يفسرون التطور في علاقته بإيديولوجيا الحداثة المتطرفة التي سيطرت على الكوكب بعد نهاية الحرب الباردة، لم يطرحوا، بتاتا، هذا السؤال رغم بساطته وهو، إذا كانت الأصولية ردّ فعل على بعض مسارات التطور ثقافات الحالية ولا سيما الثقافات التي نطلق عليها غربية فلماذا تجلى رد الفعل هذا في بناء خطابه عبر اللجوء النسقي إلى التقاليد الدينية؟ وبتعبير آخر، لماذا يكون ردّ الفعل تجاه الحداثة المتطرفة غير ظاهر في مجالات خطابية أخرى، مثلا الانضمام إلى إيديولوجية التقدم الثوري مثل اليوطوبيات الماركسية للنصف الثاني من القرن العشرين؟ إضافة لذلك، في مجال الديانات دائما، لماذا لم تستخلص هذه المعارضة الشرسة إيديولوجيتها من لا هوت التحرير كما تم تطويره خاصة في سبعينات القرن العشرين ليس فقط في الديانة الكاثوليكية ولكن أيضا في ديانات أخرى بما فيها الإسلام؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون إلا متعددة ومن ثمة لا يمكنها إلا أن تستند على دعامة عامة ذات طبيعة سميائية: إن المعارضة أو المقاومة الثقافية للحداثة المتطرفة، في جميع مظاهرها وتجلياتها، قد تم توجيهها بواسطة خطاب ديني، لأن الأديان من وجهة نظر تاريخ الثقافات البشرية وتطورها، هي الخزان الأكثر غنى والأكثر انسجاما لإيديولوجية المعنى التي تتعارض بشكل جدري مع إيديولوجية البروز التي تؤسس هي الأخرى، كما رأينا للتو، ابستمولوجيا المقاولة السميائية.

كيف يمكننا تمييز هذه الإيديولوجيا المضادة إذن؟ إننا نستطيع أن نحددها باعتبارها إيديولوجيا سميائية للتكرار. فمن منظور النموذج السميائي لغريماص غالبا ما كانت هذه الإيديولوجيا تعتمد، كما رأينا للتو، على تأويلية الوحي: فالقرآن الكريم، والكتاب المقدس، والإنجيل، والتوراة، وكتب الفيدا، ليست ملفوظات تم بناؤها انطلاقا من اختيار مجموعة من الإمكانات والاحتمالات تقدم للناس- وحتى الألوهية- على هيئة لغة ما. كما أنها ليست أيضا نصوص على الإطلاق، لأن مفهوم النص يتضمن مسبقا، حتى في تعريفة الاشتقاقي، نسج المعنى انطلاقا من نسق مؤلف من اختيار المواد، والإطار، والألوان. كما أنها ليست أيضا علامات، لأن العلامة، رغم التغييرات التي تلحق تعريفاتها، فهي دائما شيء يحيل على شيء آخر، إنها تحيل على غيرية لا تحتوي عليها بالكامل. إن المعنى المتوفر لدينا في تأويلية الوحي أي المعنى المتعالي في كليته، يتوزع في الكتاب المقدس دون عائق، إلى أن يصير بالفعل، تجسيدا نصيا للتعالي. إن الاستحالة أو الحلول[iv] هي ربما الاستعارة الأكثر ملاءمة لتفسير وجود المعنى في الكتاب المقدس حسب الإيديولوجيا السميائية للتكرار: فالقربان لا يعني جسد المسيح. بل هو جسد المسيح بالذات. إن أولئك الذين يرون أنه علامة، وإحالة على التعالي، لا يؤمنون في معجزة وسر القربان المقدس، أو لديهم تصور حديث، بروتستانتي، يتناقض مع ما يعتقدونه. إننا أمام سلسلة من الاستنتاجات التداولية الناجمة عن الوضع غير السميائي للكتاب المقدس: فلا ينبغي أن يؤول أو يترجم، ينبغي أن يكون، بدلا من ذلك مكررا، ومَتْلُوّا، أي محفوظا عن ظهر قلب، و الأفضل من ذلك أيضا إعادة نسخه وإيلاء الأهمية إلى إعادة إنتاجه ليس فقط على مستوى محتوى الكتاب بل على مستوى شكله أيضا، ومستوى تجليه وتمظهره على حد تعبير السميائيين التوليديين. إن التعارض إذن بين التأويلية السميائية وتأويلية الوحي لا يمكن تحديده بشكل واضح: إن التجلي بالنسبة للنموذج التوليدي لا يمثل شيئا، لأنه ليس سوى حصيلة لمسار توليدي فهمناه في محايثته؛ أما بالنسبة للمؤوِّل الأصولي فعلى العكس، فإن التجلي يمثل كل شيء، لأنه لا فرق عنده بين مستوى التعبير ومستوى المحتوى وبين دال بشري ومدلول إلهي. فالدال حدث إلهي بالفعل، يلزم الحفاظ عليه دون تغيير لأن الألوهية تنزاح دون إرغامات ودون اختزالات ساطعة في كمالها. إن فهم دلالة الكتاب المقدس ليست أمرا مهما، لأنها لا توجد فقط سوى في امتلاء الدال الثابت والساكن.

إن التعارض بين الإيديولوجيا السميائية للبروز والإيديولوجية السميائية للتكرار، من جهة نظر نموذج بورس، لا يبدو أقل وضوحا: إن تصنيف أنماط العلامات المنسوبة لبورس هو تصنيف في نهاية المطاف لا يمكن أن يكون إلا مبنيا على قيد التدرج في العلاقة التي يقيمها المؤول بين الماثول والموضوع. إذا كان الرمز نتيجة علاقة اعتباطية، فإن الأمارة هي الأخرى، تستجيب لتحديد صارم؛ إنها تستجيب للضغط الخارجي الذي يمارسه الموضوع على المرجع، في حين تشكل الأيقونة- نمط العلامة عند بورس الذي وجدنا صعوبة في تحديدها- مستوى توسطيا بين الرمز والأمارة، إنها علامة مؤولة محكومة بقوانين التشابه. ففي الإيديولوجيا السميائية للتكرار يحاول الكتاب المقدس بالتأكيد الانفلات من كل منطق رمزي، كما أنه يحاول التملص كذلك من الحركية السميائية للأيقونة. إن الكتاب المقدس عند الأصوليين لا يشكل تمثيلا حقيقا صادقا لكنه بالأحرى عرض وتقديم  وبعبارة أحسن إنه حضور. ومن المفيد جدا أن ننسب لهذا الكتاب الوضع السميائي للأمارة، للأثر، إلا أن الدال، في الأمارة أيضا، كما هو معلوم، لا يختلط بالمدلول إنه يتميز عنه بشكل دقيق عبر اختلاف نوعي في المكان والزمان والمادة، وحتى في صور الألوهية الخارقة كما هو الحال بالنسبة لكفن تورينو[v]، أو باقي الأيقونات الدينية التي تجسد بصورة كاملة الآلية السميائية للأمارة، ولا تترجم ما يكونه الكتاب المقدس بالنسبة للأصولي.

إن الكتاب المقدس لا يمثل بالنسبة للأصولي وصفا رمزيا للتعالي ولا صورة عنه أو أثرا ناجما عنه. إن الكتاب المقدس هو وجه التعالي والتنزيه بتعبير ليفيناس. إن ما نستنتجه هو انقلاب جذري في النسق الثّيمي الملقى على العلاقة بين انفلات المؤولات والعادة. إن كل من يبتعد عن العادة في الإيديولوجيا السميائية للتكرار يعدّ خطأ، أي لا معنى له. إن الثقافة تعبر عن ذاتها بشكل دائم في قوانينها وسننها، وأي استثناء، هو في نهاية المطاف، علامة على الشّر. أخيرا إن ما يحلم به الأصولي ضمنيا هو العودة إلى حالة الضرورة القصوى، حيث لا حاجة إلى الحرية. إنها طبيعة خالية من كلّ أثر دال على الحداثة: إن هذا هو الهدف النهائي والشرعي للأصولي.

وبالمثل، في إطار سميائيات لوتمان، فإن كل ما يوضع خارج سمياء الكون الثابت للأصولية الدينية يمكن اعتباره اضطرابا أو تأثيرا سلبيا، يستطيع إذا ما حاولنا حذفه أو استبعاده، إقحام توترات في النسق المثالي للوجود المكرّر.

ونظرا إلى أن الوصف السميائي لإيديولوجيا التكرار، غالبا ما يمنع مفسريه، والمعلقين عن الابستيمي الأصولي، ما يجعل الوصول إلى مجتمع التكرار المطلق أمرا في غاية الصعوبة، كما يصعب أيضا الوصول إلى مجتمع البروز المطلق. ويحكي الكاتب الباكستاني محسن أحمد في رواية منشورة باللغة الإنجليزية سنة 2007 بعنوان: «الأصولي المتردد»التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية بعنوان قد يبدو أقل أناقة وهو المتطرف رغما عنه، بطريقة أكثر فعالية وتأثير وممزوجة بسخرية لاذعة ومريرة عن حياة شاب باكستاني عاش حياة السقوط والخيبة في كنف الأصولية الإسلامية. في هذه الرواية التربوية المعاصرة يتعرف البطل قبل كل شيء على المفاتيح السحرية الكاشفة للنجاح المهني الاقتصادي والاجتماعي في عالم الاقتصاد المالي المُعوْلم الموجَّه من قبل الولايات المتحدة، وبعد إخفاق وجودي تحول شيئا فشيئا وبكيفية متزايدة ضد النظام الذي دعمه وأغناه إلى أن انزلق ووجد نفسه داخل خلايا التنظيمات السرية والكفاح الجهادي. إن الرواية في تأويلها للأصولية الإسلامية، باعتبارها رد فعل على العولمة التي كثيرا ما جعلتها موضوع نقاش وانتقاد، بينت رغم ذلك وبطريقة واضحة وبديهية الجدل المفارق والمنحرف أحيانا الذي يمزج بين إيديولوجيا التجلي أو البروز وإيديولوجيا التكرار، خاصة وأن هذه الرواية تقترح محكيا يستعرض بجلاء كامل يوطوبيا أسلوب العيش ويوطوبيا أسلوب الحياة المتكررة تماما ويظهرهما في غموضهما. إن الوصول إلى أي جماعة، حيث كل تجلّ أو ظهور لها يكون باهتا إلى حد التخلص منها؛ يصنع كائنا بشريا لا يمكن أن يكون سوى ناقل سلبي لتقليد أو تراث ديني يمكن النظر إليه هو الآخر باعتباره ناقلا ساكنا للتعالي: إن هذا ليس مجرد حلم، بل هو بلاغة. فعندما نحلل بنية السلطة التحكمية داخل الجماعات الأصولية، بما فيها السلطة الجوهرية للتواصل داخل الجماعة وخارجها، فإننا نلاحظ على الفور بأن آثار إيديولوجية التجلي تبقى مترسبة في نمط حياة وعيش الأصولي وغالبا ما تشغل مكانة أساسية لديه. إن الجماعات الأصولية، في كل الأديان، ليست جماعات دون زعيم، على العكس من ذلك، إن العناصر الفاعلة، يمكن التعرف عليهم داخل التنظيم انطلاقا من الأدوار التي تسند إليهم بوصفهم زعماء رأي وأمناء على التقليد الحقيقي، بما فيهم القادة العسكريون عندما يتعلق الأمر بجماعة في ميدان القتال. إن هؤلاء الزعماء يختارون ويتخذون قرارات وينتقون ويحددون المناسب من الخيارات ويؤولونها. ومع ذلك فإن قوة الإقناع لديهم ترتكز على موهبة خارقة وكاريزما لا تعتمد على بلاغة التجلي، بل على بلاغة التكرار: فكل ما قام به الزعيم، وقاله، وأمر به يُقدم لا بوصفه خيارا  ولكن بوصفه نتيجة منطقية لمسار المعنى الذي يحدث مباشرة دون بدائل ممكنة للتعالي.

إن العديد من المعلقين حول الأصولية المعاصرة، الغارقين كما لو أنهم ينتمون لإيديولوجية البروز، لديهم صعوبة في إدراك أن بلاغة التكرار يمكن أن تمتلك قوة إقناعية فائقة، حتى أكثر من، بلاغة البروز التي تعبّر عن نفسها دون كلل في الخطاب الدعائي الإشهاري. إن الخطاب الإشهاري يمنح هوية و يسعى إلى الحصول على لذة عبر سراب أو وهم الحرية. إن الخطاب الأصولي يشيد الانتماء ويحث ويحرض على السعادة عبر وهم الحاجة. إن هذه البلاغة الثانية تستطيع أن تمتلك قوة أقوى وأبلغ من الأولى والحصول على نتيجة فعالة أكثر من نتيجة الأولى في سياقات تاريخية وسوسيوثقافية خاصة. وهكذا فداخل نسق معرفي يهيمن عليه البروز، هناك شيء لا يقاوم الرغبة في الاستسلام للتكرار، مثلما هو الحال في مجتمع حيث التكرار هو المهيمن وهو يرسم طريقه للبروز. إن هذا الأخير يمكن أن يصبح هدفا لوجود أو حتى لثورة ما.

إن هذين الصنفين البلاغيين يساهمان في استخلاص نتائج غاية في الأهمية تخص الاستراتيجيات الإقناعية المعتمدة لنشر المحتويات وجعلها هدفا للعدوى والتعميم. ويمكن للاستراتيجيات التواصلية لبلاغتي البروز والتكرار أن توضع داخل ثنائية تراعي مفهوم الغيرية. وقد أشرنا للتو أن إمكانية التناوب ووجود بديل هو أساس الابستمولوجيا البنيوية، فضلا عن الابستيمي الثقافي الذي يكمن وراء ذلك. إن المعنى لا يمكن تصوره إلا في علاقة غير متوقعة يلفها الظلام والغموض، إن هذه الشرارة الغامضة، الملقاة داخل توازن البنية، تبعث الروح فيه من جديد عبر الإشارة إلى نظام القيم. والخلاصة أن الغيرية التي تولد المعنى يلزمها امتلاك دلالات موحية ومنتشرة. فلا حياة دون معنى. ولا معنى دون غيرية تؤسسه. لذلك فإن كل الاستراتيجيات التواصلية للبروز تنتشر حول مبدأ الجدة: فالمجهول الوافد من التعالي هو دائما إيجابي ودائما موضع ترحيب. وعلى العكس من ذلك، فإن الاستراتيجيات الإقناعية للتكرار تنتظم وتتحلّق حول أسطورة العدو. إن كل ما يشكل مصدرا بديلا، وكل ما يكسر جمود النسق وثباته عن طريق إدخال قوة خارجية هو ما يولِّد مبدأ الاختيار، وبالتالي يولّد حرية، وهذا مُدان وينبغي رفضه بقوة أو حتى بعنف.

إذا كانت إضافة صديق جديد تشكل مصدرا غامضا لمعنى التذرع بالممارسات الإلهامية ومنفصلة عن الاستراتيجيات التواصلية للبروز، فإن إقناع أي أصولية لا يمكن تصوره دون عدو. فالعدو هو المضاد الوحيد للذات الأصولية بامتياز، ووجوده ضروري بالنسبة لها ليس بسبب أنها في حاجة إلى كبش فداء، ولكن لأن الأصولية قد تحتاج باستمرار إلى تقديم تقارير أو حتى تجسيدها في محكياتها واتصالاتها، إن القوة الهائلة لهذه العدائية تتبدى في كسر وشرخ سلام التكرار.وسواء اختارت اليهود والعرب والمثليين أو المؤمنين المعتدلين هدفا لعدوانيتها، فإن ما يهم في الأصوليات ليس هو الهوية العرقية أو الدينية للأعداء الذين تواجههم، ولكن في الحقيقة لأن لديها عدوا ينبغي مهاجمته، عدو يجسد مبدأ الغيرية يقوض وينسف مصدر رزق الأصوليات. وفي الصفحات التالية سيتم تحليل بعض ظواهر المجتمع والثقافة الفرنسية والفرانكفونية الحالية انطلاقا من هذا الإطار النظري.            


[i] – هانس أورس فون بالتازار،urs von Balthasar قسيس كاثوليكي سويسري لأبرشية شور. ولد في سويسرا في 12 أغسطس 1905، وتوفي في 26 يونيو 1988، لاهوتي شهير عينه البابا يوحنا بولس الثاني كاردينالا سنة 1988 ولكنه توفي بضعة أيام قبل الحصول على شارات تعيينه. لقد قال عنه الكاردينال Jean Daniélou بأنه الإنسان الأكثر ثقافة في عصرنا.(المترجم)

[ii]  – الشيء” البارز” هو كل ما يختلف مقارنة مع سياق ما.أما إيديولوجيا البروز فهي إيديولوجيا المعنى الذي يؤيد كل ما هو جديد وكل تغيير وكل تأويل جديد. وتتعارض كما سنرى مع إيديولوجيا التكرار التي تعطي ميزة لكل ما هو تقليد ولكل إخلاص في الرسالة ولكل ما هو طقوسي وقدسي. (المترجم)

[iii] – السميائيات البيولوجية أو السميائيات الإحيائية Biosémiotique وهي فرع من البيولوجيا والسميائيات التي تقوم بدراسة كل مظاهر العلامات البيولوجية في سيرورتها الدلالية والتواصلية اعتمادا على ما تنتجه العلامات. (المترجم)

1 – تعني الاستحالة أو الحلول،  La transsubstantiation حرفيا، تحويل مادة إلى أخرى. و يقصد بالمصطلح عند بعض المسيحيين (خاصة الكاثوليكيين) تحويل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح خلال القربان المقدس. وعلى المستوى الديني فإن المسيحيين الكاثوليكيين الرومانيين والأرمن الكاثوليكية والمارونيين يستعملون مصطلح “الاستحالة” ليفسروا لنا أنه في القربان المقدس، يحضر الخبز والنبيذ، لتكريس القداس، “بشكل واقعي وحقيقي ومحول” إلى جسد ودم المسيح، مع الحفاظ على خصائصهما الفيزيائية أو النوعية الأصلية (الطعم والرائحة) .وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى تلاميذه وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متى 26: 26 – 28). وتعلم الكنيسة الكاثوليكية عقيدة الاستحالة، التي تقول أنه عندما ينطق الكاهن بكلمات التكريس فوق الخبز والخمر في القداس، تتحول هذه إلى جسد ودم الرب الحقيقي، نفس ولاهوت الرب يسوع المسيح. وتشكل الاستحالة أساس عبادة هذه الكنيسة، التي تعلم أنه بعد تكريس الخبز والخمر تتحول هذه إلى ذات الرب يسوع ابن الله، لذلك يصلي الشعب إليه ويعبده. ويؤمن المسيحيون الحقيقيون أنه يجب عليهم أن يأكلوا جسد الرب ويشربوا دمه إن هم أرادوا الحصول على حياة أبدية ثابتة فيهم. ويعلمون أيضا أن هذا يتم عن طريق الإيمان بيسوع المسيح كابن الله. وعن طريق قراءة وحفظ الكتب المقدسة. وأيضاً عن طريق الإصغاء إلى الوعظ المبني على الإنجيل المقدس. ويتم هذا أيضاً عندما يصلون إلى ألآب باسم المسيح، وعندما يشتركون في تناول الخبز والخمر في الشركة المقدسة (وهو لا يزال خبزاً وخمراً) طاعة للوصية: “اصنعوا هذا لذكري”. للمزيد ينظر: http://www.kalimatalhayat.com/church-related/73-the-lord-supper/1273-chapter21.html  (المترجم)

[v]– كفن تورينو le Saint Suaire de Turin هي قطعة كتانية يقال بأنها كانت الكساء الذي كفن به السيد المسيح أثناء دفنه. تم الاحتفاظ بهذه القطعة منذ عام 1578 في المصلى الملكي بكاتدرائية سان جيوفاني باتيستا في مدينة تورينو الإيطالية. ويبدو أن الكفن الذي يعتبر من أهم الآثار المسيحية وأكثرها احتراما يبصم على قماشه ملامح أو صورة رجل ملتح ، طويل الشعر يحمل جسمه جروحا تتوافق مع عملية الصلب. ويستدرج الكفن سنويا ملايين الزوار إلى كاتدرائية تورينو حيث يُحفظ في صندوق ذي تصميم خاص ومكيف. ولم يتمكن العلماء قط من تفسير الأثر الذي تركته على قطعة القماش صورة رجل يحمل جسده آثار مسامير دُقت في رسغيه وقدميه ووخزات الشوك على جبهته وجرح رمح في صدره. للمزيد ينظر: http://www.kafanalmassih.org/FAQ.php              (المترجم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.