تأليف: ماسيمو ليوني ترجمة: عبد الله بريمي
لقد تم الإعلان عن ظاهرة ديودوني للوهلة الأولى، على الصعيدين الوطني والدولي ليس عبر التكرار ولكن عبر إبراز إشارة «كونيل». وبغض النظر عن تحديد شرعية المسألة، وما إذا كانت هذه الإشارة قد تم إحداثها من قبل الممثل الكوميدي الفرنسي أم لا، فإننا ندين له، دون أدنى شك، إعادة إعطاء معانٍ جديدة لهذه الإشارة والدلالة التي تدرك وتحضر بها في سمياء الكون الفرنسي الحالي. ورغم أن «قضية ديودوني« شكلت حدثا لعدد كبير جدا من التعليقات الصحافية والتحليلات الفكرية العالمة، فإنه لا أحد من السميائيين، في حدود علمنا، حاول البحث في ما ينبغي أن يكون عليه موضوع نموذجي للتحليل السميائي، أعني تحليل هذه الإشارة ماذا يمكننا أن نقول عنها وعن دلالتها من منظور السميائيات؟ هل يمكننا أن نضعها في علاقة مع ما حاولنا اقتراحه ضد الأصوليات وبلاغاتها؟ إن إشارة كونيل مثل أي ظاهرة تواصلية تشتمل على مستويين هما: مستوى التعبير ومستوى المحتوى. فعلى مستوى التعبير، فإنها تُمفصِل الجسد باعتباره مادة تعبيرية مع شكل دال (مبتكر أو أعيد ابتكاره من لدن ديودوني) لإعطاء مادة تعبيرية إلى المحتوى المدلول. وكيفما كان الجسد فإن المادة التعبيرية التي يستخدمها ديودوني وأتباعه لترويج وتصريف هذا المحتوى لا تخلو من أهمية. إن المحتوى «جزء لا يتجزأ» من أولئك الذين يظهرونه مما يتيح فرصة التعرف عليه في شموليته وذلك عبر التحام تامّ بين قصدية تواصلية فردية وجسد يحاول إيصال رسالة ما؛ إن الجسد كلّه، في إشارة كونيل، هو من يتحول إلى شبكة تواصلية اجتماعية تعبّر عن إيديولوجيا ديودوني. وهذا، كما سنرى، له تأثيرات لا يمكن إهمالها حول خاصية جوهرية لإشارة كونيل، أعني قدرة هذه الإشارة على التكاثر وعلى الانتشار المفرط في سمياء الكون الفرنسي. إن مستوى تعبير هذه الإشارة لا يتكوّن فقط من مادة، الجسد، بل أيضا من شكل دال ينسجم مع هذه المادة الجسدية وفق سنن محدد. هاهنا يظهر ابتكار الزعيم: إننا ندرك أن إقناع مجموعة من الأفراد على إنتاج الإشارة نفسها أو سلوك الجسد نفسه معناه ممارسة رقابة قوية حول قواه الإدراكية والوجدانية وحول أفعاله. وتعرف كل نزعة شمولية بإقحامها لإشارة خاصة دالة على التحية، وهي إشارة تسمح لدعاة الإيديولوجيا بالتعارف فيما بينهم وتأكيد انتمائهم إلى المجموعة الشمولية. إن العلاقة بين هذا النوع من الإشارات والإيديولوجية السميائية للتكرار هي علاقة واضحة وبديهية: فمن جهة نبين أن الإفصاح عن الجسد من خلال الإشارة الشمولية يسمح لأولئك الذين يظهرونه بالانعزال داخل جماعة لتشكيل فئة منغلقة قادرة على مقاومة كل الضغوط الخارجية. ومن جهة أخرى، وخلافا لما سبق، فإن الإشارة الشمولية تجسّد إيديولوجيا التكرار بالمعنى الذي لا يمكنها أن تخضع لأي إعادة صياغة فردية: فعندما ننخرط في المجموعة الشمولية، يكون الجسد هو القناة الأولى لإظهار التنازل عن كل فردانية لصالح إيديولوجيا الجماعة.إن الشريط السينمائي الألماني«الموجة»[1] الذي أخرجه دوني غانزيل والذي عرض في القاعات سنة 2009 يحكي قصة تجربة «سيكولوجيا الحشود»: حيث المدرس يشجع تلاميذه على محاكاة تنظيم تابع لجماعة أو حركة إقصائية ما، مع ما يترتب عن هذا الوضع من عواقب غير متوقعة ومأساوية. ومن بين الأمور الأساسية اللافتة للنظر في هذا المسار هو ابتكار تحية واعتمادها بشكل معمم، إنها موجة من نوع ما، تحاكي هذه التحية عبر حركة متموجة للذراع اليمنى وهي ما يطلق عليه نوع البريك دانس.[2] وهكذا فإن سلطة إشارة اليد هذه في الحياة السياسية المرتبطة بالمعيش اليومي أمر لا يمكن عده والتكهن بنتائجه: فعندما تترجم وتحلّ الإيديولوجيا في الجسد، فإنها تتحجر بعيدا عن رغبة هذا الجسد.
بطبيعة الحال إن الشريط استوحى واستمد أفكاره من الأنظمة الشمولية التوتاليتارية الاستبدادية للقرن العشرين، إلا أن المعادلة بين إشارات الجسد والتضمين الإيديولوجي ليست ابتكارا جديدا. فإذا كانت فاشية القرن الماضي قد استعادت تحية الإمبراطورية الرومانية وحاولت أن تضمّنها إيحاءات جديدة، فإنه في الثقافات الدينية، وبطريقة نسقية ينحني الجسد ويخضع لطقوس جديدة ليعلن انخراطه اللامشروط في إيديولوجية روحانية. وهكذا «ابتكرت» المسيحية طريقة جديدة لتنظيم الجسد واستقامته في الصلاة («انطلاقا من علامة الصليب») لتميز نفسها عن اليهودية وهو المنطق نفسه الذي اتبعه الإسلام لكي يميز به نفسه عن اليهودية والمسيحية. إن تأسيس ديانة ما معناه وضع صياغة تعبيرية جديدة تهمّ جسد المؤمنين، بكيفية تمكنهم في الوقت نفسه من الظهور والتعبير عن إيمانهم. إن القوة التواصلية لإشارة كونيل تكمن في الحركية نفسها: فأولئك الذين ينتمون إلى فكر ديودوني غير مجبرين على الامتثال لخطورة تصريحات شفهية، لا يمكنها أن تكون إلا ذاتية؛ إنهم ببساطة قادرون على تحويل جسدهم إلى علامة دالة على انخراطهم اللامشروط وهي علامة تعد بمثابة نسخة لجسد الزعيم.
إلا أن ما يميز الصياغة التعبيرية لإشارة كونيل، أي الشكل الذي تعطيه هذه الإشارة للجسد، ليس هو تلك الدينامية العامة والنمطية للإشارات الرمزية والطقوسية فقط، بل هناك أيضا سمات خاصة ومحددة تميزها، رغم أن المدافعين عن ديودوني يسعون إلى إنكار ذلك كون إشارة كونيل هذه، تشبه تحية نازية. إن هذا يستدعي، حتما، تناصّا إشاريا، في كل مرة يقوم فيها مؤيد ديودوني بإعادة إنتاج الإشارة: أي التناص بين إشارة كونيل وتحية هيتلير. وتحاول السميائيات بطريقة صورية إثبات أن هذا التشابه، والتناص الإشاري الناجم عنه، لا يمكن النظر إليهما باعتبارهما نتاج انطباع ذاتي، بل هما نتيجة عاملين. العامل الأول يظهر أن التصميم التشكيلي لإشارة كونيل يشبه بقوة وإلى حد كبير تصميم التحية النازية: أي قوة وصلابة الذراع اليمنى الممدودة في اتجاه المحاوِر مع يد مفتوحة وصلبة على نحو مماثل، الأصابع هي الأخرى ممدودة جيدا لإظهار قوة دفع الذراع. ودون شك إن هذه السمات التشكيلية تقترن بسمات أخرى تعيق وتشوّش على التشابه: فالذراع موجهة نحو الأسفل وليس إلى الأعلى؛ فيما الذراع اليُسرى توضع على الصدر تقترب من لمس الكتف الأيمن. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يصفون إشارة كونيل بأنها «تحية نازية مقلوبة» ليسوا مخطئين. فمن منظور السميائيات، نورد أن التوازي بينهما صار مؤكَّدا سواء من حيث البنية التشكيلية للإشارة التي وصفناها للتو، أو من خلال علاقتها مع مستوى المحتوى. وفي الواقع، فإن ما يجعلنا نتعرف في إشارة كونيل على التحية النازية ليس فقط شكل التعبير، بل أيضا المحتوى الذي تحيل عليه. لقد حاول ديودوني وبعض مسانديه الإشارة إلى الغموض الجنسي الذي يلفّ إشارة الذراع (بجدر بنا أن نرى محاكاة الإشارة إلى موضع في الدُّبر ودلالة الاستدبار وممارسة الجنس مما يجعل منها نسبيا إشارة جنسية إلى آثار النظام في حياة المواطنين): ليس هناك أقل من كون خطاب ديودوني يحمل علامات ضد السامية، ويساعد على انتقاء السمات التشكيلية التي تكوّن كونيل؛ ونظرا لسياق خطاب ديودوني المعادي للسامية، فإن إشارة كونيل سينتهي بها المآل لتبدو وكأنها تحية للنازية، وتساهم، بدورها، في ترويج وتأكيد بعض المحتويات المعادية للسامية في تصريحات ديودوني وهكذا دواليك في حلقة مفرغة.
يجب على التحليل السميائي أن يربط بين الدراسة البنيوية للأشكال التعبيرية والتحليل الدلالي للمحتويات طالما أن كونيل تعد إشارة طقوسية دالة على الانتماء اللامفكر فيه لجماعة معادية للسامية، فعلى ماذا تدل هذه الإشارة عندما تظهر في سمياء الكون الفرنسي المعاصر؟ للإجابة عن هذا السؤال يلزمنا التمييز بين عدة مستويات تحليلية: فمن جهة هناك مستوى القصدية التواصلية لأولئك الذين يعيدون إنتاج هذه الحركة. ومن جهة أخرى هناك مستوى القصدية التأويلية لأولئك الذين يشاهدونها في الشارع أو في وسائل الإعلام. إن سيكولوجيا وسوسيولوجيا التواصل مؤهلين بكيفية أفضل من السميائيات للتحري والبحث- على التوالي- في هذين المستويين. لكن هناك مستوى ثالث أطلق عليه أمبرتو إيكو «قصدية النص» ويعني بها البنية الدالة للإشارة ومحتواها الثقافي المستقلّ عن المقاصد التواصلية والاستقبالية (تلك الدالة على التلقي).
فما هو إذن «شكل محتوى» إشارة كونيل، أي الطريقة التي تُظهر بها هذه الإشارة نزعة ثقافية لسمياء الكون الفرنسي الحالي؟ إن بعض هذه العناصر التي تكوِّن «شكل المحتوى» قد أثيرت من قبلُ وهي: الانخراط في إيديولوجيا التكرار؛ إحداث سياسة مرتبطة بالحياة اليومية لجماعة استئصالية؛ إحالة تناصّية على النزعة الإشارية للأنظمة الشمولية التوليتارية المعادية للسامية؛ القدرة على الانتشار عن طريق العدوى أو الانتقال الخارق كما هو الحال بالنسبة لنسخ وتقليد إشارات الزعيم. لكن كيف يمكننا تأويل المعادلة التشكيلية للتحية النازية والغموض الجنسي الذي ولّد هذه المعادلة؟ إن هاتين السمتين المركزيتين في البناء الاجتماعي لإشارة كونيل وما تتضمنه، لا يعملان سوى على إعادة إنتاج ما ذهب إليه ديودوني في كل خطاباته. فمن جهة نشير إلى أن القلب المكاني للتحية النازية قد أقحم بعدا محاكيا ساخرا شبه احتفالي في انتشار الإشارة. فما نراه في إشارة كونيل ليس فقط النزعة النازية، بل محاكاتها الساخرة. ومن جهة أخرى، إن الإحالة على الفعل الجنسي ستساهم في نشر سلسلة من الإيحاءات الآتية: أولا، إنها تحول تحية يبدو أنها وضعت أصلا لتحديد هوية وتشريف رفيق إلى تحية لم تكتف فقط بتحديد هوية الانتماء، بل ساهمت أيضا وفي الوقت نفسه، في صناعة عدو: إن إشارة كونيل هي في الواقع، الإشارة التي يتقاسمها كل أولئك الذين يشعرون باغتصابهم وانتهاك «النظام» لحرمتهم، وهو نظام يعطي إلى الإشارة في بعدها التناصي إيحاء إسرائيليا، إنهم يحاولون بدورهم مبادلة هذا الانتهاك. إن الطابع الذكوري المفرط والمعادي للمثلية الجنسية الذي توحي به إشارة كونيل، والذي يكاد يعني ضمنيا أن النكاح من الدّبر لا يمكن إلاّ أن يفضي إلى اغتصاب، هو الذي يساهم في تعميق التناظر الدلالي الفاشي للإشارة.
غير أن التقاطع بين التناظر الإشاري النازي و التناظر الجنسي- التقاطع الذي ولّد القلب المكاني للتحية الرومانية- ليس هو الأثر الوحيد الذي ترتّب عليه اقتراح تدليل جديد من قبل ديودوني. إن إشارة كونيل منظورا إليها في سياق أوسع، تعبّر عن مضمون يلزمنا الإحالة عليه داخل توجه ثقافي أعمّ، معبرة عن نفسها في الخليط الغامض للخطاب السياسي مع الخطاب السخري. فهناك دائما سخرية في الخطاب السياسي؛ وفي الوقت نفسه، نورد أن خطاب «مهني ومحترفي السخرية» الكوميديين كان دائما ممزوجا بإيحاءات سياسية. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، في فرنسا كما في إيطاليا أو في أي مكان آخر، فإن التقاطع بين هذين الخطابين قد أخذ صورة غير عادية ومثيرة للقلق. فمن جهة نورد أن الخطاب الساخر أصبح بمعنى من المعاني خطابا مهيمنا، ليس بالمعنى الذي يجعله يستولي ويمنحه سلطة، ولكن بالمعنى الذي يجعله يحول الخطاب السياسي للمعارضة إلى خطاب للسلطة. لقد كانت هذه الظاهرة أكثر وضوحا في إيطاليا، حيث أصبح الكوميديون الساخرون في فترة رئاسة بيرلسكوني هم زعماء المعارضة وقادة الرأي الحقيقيين في محاكمة معززة بالرقابة البيرلسكونية: كلّما هاجم الكوميديون الساخرون بيرلسكوني وأنصاره كلّما ازدادت الرقابة عليهم، غير أن هذا يحوّلهم إلى شهداء قضية، وإلى زعماء، في عيون فئة عريضة من الرأي العام الإيطالي. إن حصيلة هذه السيرورة الثقافية، في نهاية فترة بيرلسكوني الرئاسية، هي إنشاء خطاب سياسي أداته البلاغية الجوهرية هي السخرية، أو بالأحرى، التهكّم الساخر والتعريض. وإذا كان هذا التوجه في السياق الإيطالي قد ساهم في صعود بيب غريو وحركته السياسية، فإنه في سمياء الكون الفرنسي، أو بالأحرى عند ديودوني، نجد، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف السياق، إحداث مؤسسة للتهكّم باعتبارها محورا أساسيا لبلاغة المعارضة السياسية.
إن هذا الخلط في الخطابات وباقي المواضيع الأخرى لا يمكن أن يكون دون عواقب. فحسب الأماكن الخطابية التي نتردد عليها أو التي نعبر فيها عن ذواتنا، هناك درجة متفاوتة من المسؤولية المسندة إلى أفكارنا وملاحظاتنا التي نسعى إلى ترويجها وتعميمها داخل المجتمع. فالسياسي الذي يتحدث داخل البرلمان عن دولته قد وضع نفسه في الوهلة الأولى داخل ساحة خطابية حيث كل ما لديه وكل ما سيقوله سيتم النظر إليه بوصفه تعبيرا عن قصديته التواصلية وبالتالي مصدرَ مسؤولية كاملة. إن وضع الكوميدي الساخر الذي يُدين الآراء السياسية على المسرح، في مشهد ما، يختلف تماما عن وضع السياسي. إن مسؤولية كلامه وأفكاره ستكون دائما محدودة بسياق الأداء أو الإنجاز وبالمكانة التي يحتلها في المخيال الجمعي. وفي مواجهة أيّ انتقاد يوجّه إليه يستطيع الكوميدي الساخر الادعاء دائما بأنه كان يمزح أو أنه لم يكن جادا، وأن الأمر يتعلق بعرض ساخر ليس إلاّ وبأن حرية تعبير الفنانين لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون محدودة.
إن الثقافات الغربية توافق على إعطاء قدر أكبر من الحرية للفنانين ويعد هذا فتحا مبينا لتطورها الديمقراطي. لكن ماذا يحدث، إذا تمت مساندة كوميدي ساخر من قبل الآلاف الذين يرتادون الأنترنيت، بل الملايين من المعجبين؟ وماذا يحدث إذا لم يكن تعريضه وتهكّمه موجّها ضد زعيم سياسي أو ضد حكومة، ولكن ضد جماعة عرقية أو ضد ديانة ما؟ ماذا لو كان هذا التهكّم سببا في جعل الملايين من الأتباع يحرجون جماعة عرقية ويجعلونها أضحوكة أو حتى النظر إليها بوصفها عدوا ينبغي طرده بعنف من المجتمع؟ إن المدافعين عن حرية السخرية مهما كلّفهم الأمر ينسون بأن هناك اختلافا جوهريا بين الكوميدي الساخر الذي يحاول وحده إحراج السلطة باجتذاب الناس إليه وتعاطفهم معه بسبب الشجاعة والمراوغة اللتين يظهرهما أثناء تحدّيه للرقابة، والكوميدي الساخر، الذي أصبح زعيما للرأي، أو زعيما سياسيا لجماعة كبيرة تشجعه، عبر تهكّمه، على خلق واضطهاد كبش فداء. إن هذا بالضبط هو التوجه الثقافي الذي نلمسه والذي يعرب عن نفسه في إشارة كونيل: إن اعتماد التهكم كتقنية بلاغية غامضة، إنما هو للانفلات من قيود وإرغامات الخطاب السياسي وذلك عبر إعادة اقتراح خطاب سياسي آخر تجسّده تقنية الضحك كآلية ديماغوجية معدية ودون تفكير؛ إن السخرية من العدو بدون قيود، عدو لا يتم الكشف عن هويته بالاسم ولا بالمسؤوليات المنوطة به ولكن يلمّح إليه دائما بالصفات العرقية والشكوك والشبهات التي تحيط به؛ وإننا لا نجد أدنى صعوبة في العثور داخل كونيل ديودوني، عن المزج السامّ بين التهكّم والسياسة الذي تروج لملصقات معادية للسامية خلال الفترة النازية والفاشية والتي تمجّد الضحك العنيف لملايين من الألمان والإيطاليين.
هل يمكننا أن نقول إن إشارة كونيل هي إشارة أصولية؟ لم يخف ديودوني يوما ما تعاطفاته مع الإسلام الأصولي وممثليه الفرنسيين الذين يتقاسم معهم نفس الكراهية المعادية للسامية، حيث يمكننا أن نشاهده على موقع يوتوب في مشاركته في برنامج إيراني يُشيد بحكومة مُنكِر المحرقة محمود أحمدي نجاد والتي قبلت أيضا بتمويل هذا البرنامج. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدو ديودوني وأتباعه يتميز بأوصاف عرقية ودينية- «وهي الأوصاف التي تعبر عنها كونيل وبلاغتها بما يتناسب مع عدو الشعب الفرنسي»- التي نجدها في معاداة السامية للإسلام الأصولي. غير أن هذه العناصر لا تشكل الأسباب الجوهرية التي تجعلنا نصنف تهكم ديودوني وإشارته ضمن مظاهر الأصوليات المعاصرة. إن السبب الرئيسي لهذا التصنيف هو شيء آخر مختلف. ففي الوقت الذي يستهدف فيه خطاب السخرية وعلى نحو جوهري تقويض العادات التأويلية وخاصة تلك العادات الناجمة عن السلطة ومراقبتها الصارمة والعدوانية على المجتمع، نجد خطاب التهكم وخاصة تهكم ديودوني يجعل أحد أهدافه الأساسية تأكيد إيديولوجيا التكرار التي تبدو من خلالها إشارة كونيل، وموجات الاتهامات التي ترمز لها، مجسدة في جماعة بأكملها باعتبارها حقيقة مكررة لكنها غير قابلة للمعالجة والتأمل وباعتبارها مؤسِّسة لعقيدة ديماغوجية هي في مواجهة عنيفة مع عدو يحمل هوية عرقية دينية، أي اليهود، إن هذا العدو يجد تضامنا في التطرف الإسلامي فضلا عن تضامن أصولية النازية الجديدة معه.
[1]– Die Welle[« La vague »] تدور أحداث الشريط، المقتبس من حادثة حقيقية، في إحدى المدارس الثانوية في ألمانيا، حيث تقرر إدارة المدرسة تنظيم أسبوع خاص لتعريف الطلبة على الأيديولوجيات المعاصرة المختلفة، فيتم تقسيم الطلبة إلى مجموعات ويركز الفيلم على المجموعة التي تتخصص في النظام الأوتوقراطي الاستبدادي. يبدأ المدرس في شرح آليات نظم الحكم الأوتوقراطية وأهم المبادئ التي ترتكز عليها، وأمام التفاعل الكبير من قبل الطلبة وأسئلتهم الشغوفة حول الموضوع، يقرر المدرس أن يطبق نموذجا عمليا يمكن الطلبة من فهم الأوتوقراطية بشكل أفضل، فيبدأ في محاولة فرض الطاعة والانضباط على الطلبة؛ فالتأخير عن الصف والمحادثات الجانبية غير مسموح بهما والكلام لا يكون إلا بعد طلب الإذن. التجربة التي بدأت أول الأمر بشكلٍ سلميّ وارتكزت على مفاهيمٍ من قبيل النظام والجماعة، تطوَّرت خلال أيامٍ قلائل لتتحوَّل إلى حركةٍ بما تعنيه الكلمةُ من معنى، حملت اسمًا هو: الموجة.لم يكد اليومُ الثالث يمر إلا وبدأ الطلابُ في إقصاء المُختلفين معهم في الفكر ومضايقتهم. عندما تصاعد الوضعُ على هامش دورة طلابية في لعبة كرة الماء، قرر المُدرِّس إيقاف التجربة. لكن كان ذلك مُتأخرًا للغاية. لقد خرجت الموجةُ عن السيطرة منذُ أمدٍ بعيد!. تمكن المخرج دوني غانزل ببراعة عن طريق شريطه من أن يوضح أنه حتى في أكثر المجتمعات تمسكا بالحرية والديمقراطية، تبقى تلك الديمقراطية هشة وقابلة للتحول في وقت قصير جدا إلى النقيض عن طريق الدعاية والإيديولوجيا والكاريزما، خصوصا لدى جيل الشباب. فالمجتمعات المتقدمة تعاني من حالة فراغ تتسبب فيها الفردانية والتفكك الاجتماعي، وهذا وضع لا يمكن أن يستمر للأبد، كما يعتقد المخرج، والخوف كل الخوف أن تظهر موجة جديدة من الأيديولوجيات الشمولية لتحاول شغل الفراغ الحالي. (المترجم).
[2] – البريك دانس بالإنجليزية: (Break dance) وهي رقصة التكسير تكون على موسيقى الهيب هوب أو الراب وتطورت باعتبارها جزءا من ثقافة الهيب هوب. ويمكن تعريفها كذلك بوصفها التعبير الجسدي المصاحب لموسيقى الراب. وتعتبر من أصعب أنواع الرقص وأكثره خطورة وتعتمد على الإيقاع وتتعب التفكير ولكنها تقتضي جسدا قويا في ممارسته. أصبحت هذه الرقصة منتشرة في جميع مناطق العالم حيث، تنتشر في أمريكا وجنوب أفريقيا، كما اشتهر بها الكوريون أيضا والفرنسيون والبرازيل وإيطاليا وهولندا وفي الدول العربية نجد تونس والمغرب والجزائر والأردن وسوريا. (المترجم)