حوار مع الأستاذ عبد الله بريمي .. حاوره: رشيد شريت جريدة المساء
س _ الاحتجاج ظاهرة تواصلية ذات أبعاد سياسية واجتماعية عرفت في الآونة الأخيرة انتشارا ملحوظا ومهولاً في كثير من المجتمعات العربية والغربية على حدّ سواء، من جهة نظركم كيف نقارب الاحتجاج سيميائيا؟
ج _ هناك مقاربات عدّة تناولت الاحتجاج من زاويا نظر مختلفة: فالمؤرخون يحاولون فعل ذلك انطلاقا من البحث عن الوثائق وإيجادها وفرزها وتمحيصها بدقّة وأناة، وإن عملا كهذا سوف يساعدهم على فهم كيف يوصل الاحتجاج الدولة إلى نقطة الانهيار. بالإضافة إلى هذا فإنهم سيقومون بدراسة المسالك الصعبة والمتشعّبة التي أعطت الاحتجاج شكلا محققا، وتطورا على مدى الزمان والمكان، فصار ثورة أسفرت عن مشاركة قادة مع أسماء لا تنسى ومع عامة الناس، وكُلّلت بالنجاح رغبة منها في تغيير وجه المجتمع والدولة أو حتى الإنسانية جمعاء، أو صادفت عقبات لا يمكن التغلب عليها أو شهدت تراجعا وانسحابا أو سقطت بفعل خيانة. بل إن بعض المؤرخين الجدد اليوم لا يقيدون أنفسهم بالوثيقة وما تفرضه من تحديدات، إنهم يستعملون كافة ما يستعمله الإنسان: اللغة والعلامات وكل مصدر آخر يمكن الحصول عليه. وباختصار، فإن عليهم أن يكونوا منفتحين على كل مقاربات العلوم الأخرى، كالجغرافية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس والأنثربولوجيا واللسانيات… إن عمل المؤرخين للكتابة عن الاحتجاج أمر ضروري. ولكن بنفس القدر من الأهمية هو عمل الباحثين في علم الاجتماع أيضا: ما هي الظروف الاجتماعية التي تحدّد وتساهم في تجميع الأفراد داخل جماعات احتجاجية؟ ثم ما هي العلاقة بين الاحتجاج والسلطة؟ وما هي القيم والمثل العليا التي تدفع المحتج لممارسة هذا الفعل؟ ما الذي يجعله يثور ضدّا على القيود والعبودية والظلم؟ إن المقاربة النفسية لا تقلّ أهمية في تناولها لموضوع غاية في التعقيد، إذ كيف نحصل أو ننجز تجربة حميمية لمشهد احتجاجي؟ ما هي القوى الفكرية والعاطفية الفاعلة التي تدفع الفرد للنضال ضدّا على الوضع القائم؟ ما الذي حمله هذا الفرد، بالمقابل، على قبوله والرّضى به؟
إن جميع المقاربات السالفة والأسئلة التي طرحتها يعدّ شيئا مهمّا في معرفة معمقة لظاهرة الاحتجاج. ومع ذلك، فإن السميائيات في مقاربتها للظاهرة تنحو منحى مختلفا، إذ تركز ليس فقط على الشروط التاريخية والأسباب الاجتماعية والديناميات النفسية التي تميز الاحتجاج، ولكنها تركّز أيضا، على الاحتجاج باعتباره ظاهرة دلالية وتواصلية، أي باعتباره ظاهره متموضعة في قلب الثقافة تنطلق من داخل شبكة نُسجت من خيوط سميائية وتأويلية وأصبحت بعض وحداتها الثقافية مكونات أساسية لكثير من مساراتها الدلالية. كما تركز على لغة الاحتجاج في مستوياتها المتعددة وعلى الاحتجاج باعتباره لغة وثقافة. وهذا يعني أن السميائيات تهتم بالعلامات والخطابات والنصوص التي تتحدث عن الاحتجاج وتعطيه كافة تحققاته. إنها تهتم بالأصوات والألوان والأشكال والحركات.. وتقترح السميائيات مجموعة من المفاهيم والطرائق للتحقّق أولاّ من الممارسات والنصوص والأشياء والتفاعلات الاجتماعية، وأساليب الحياة وأنماط الوجود الجماعي والمجتمعي. فهي قادرة على بناء المعنى، والاشتغال إلى جنب جميع التخصصات الأخرى داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تساهم في إرساء دعائم هذا المعنى، كل من زاوية نظره الخاصة، حيث: اللسانيات والتاريخ والفلسفة والأنثربولوجيا وعلم الآثار والاقتصاد والتحليل النفسي وعلم الاجتماع والفن… وبوسع السميائيات الذهاب بعيدا في التحليل، شريطة أن تكون قادرة على اختيار المستوى أو المستويات المحايثة والملائمة. إن السميائيات تساعدنا مع ذلك على التمييز بين العديد من المصطلحات ذات الصلة بالحقل الدّال على “الاحتجاج” فهي تساعدنا على إبراز الفرق مثلا بين: الاحتجاج والخلاف والاِعْتِرَاض والإِبَاء والاستنكار والاستياء والاعتراض والتَبَرُّم والرّفْض والشّجْب والشّكْوَى وعَدَم القُبُول والمُطَالَبَة والمُعَارضَة والمُقاوَمَة والمُمَانَعَة والسّخط وتبادل الاتهامات والتمرّد والتخريب والإثارة والارتباك والفتنة والعصيان…
س_ قلتم أنه سيميائيا يمكن القول أن الاحتجاجات ومعها الحراك قد يتخذ صورة صراع الهامش والمركز، هل هذا الصراع هو صراع إرادات بين المركز و الهامش؟
ج _ إن الحياة الاجتماعية والثقافية تمتلئ دائمًا بالصراع، فكل معركة اجتماعية، هي، قبل كل شيء، معركة حول معاني مفردات معينة وقيم معينة وأبطال معينين. وإن السميائيين دائما ما يلقون نظرة مزدوجة حول وقائع الحياة الاجتماعية؛ فهُم يدرسون الكلمات، وباقي أشكال التعبير الإنساني لفهم دلالتها، وبعد ذلك يتساءلون عن بنية المعنى لفهم أفضل لكل تجلياته. لذلك فالصراع بين قوى المركز والهامش في اعتقادي، هو صراع تمليه التناقضات التاريخية بين مصالح كل طرف. والاحتجاجات الشعبية تعدّ تجلّيا صريحا لنسق كاشف عن الصراع الاجتماعي وهو صراع رهانه وموضوع قيمته هو تحقيق نوع من التوازن في ميزان القوة داخل المجتمع، لكن الطبيعة الاستغلالية للرأسمال المحتكِر تدفعه إلى نهج سياسة قمعية لا تساوم بشأن مصالحه المادية. والأنظمة الاستبدادية المتمركزة على ذاتها، ليست فوضوية ولا عبثية، بل هي منظمة بطريقة محكمة وبكيفية تخدم مصالحها ومصالح القوى الدائرة في فلكها، وتدير وتدبّر أمور سياساتها بطريقة صارمة. لكنها، بطبيعة النشأة، أنظمة تحكمها القوة وقيم الهيمنة والاستبداد والتمييز بين البشر على مستوى الجغرافيا والجنس واللون والرأسمال والثقافة. فلا حق ولا باطل ولا صواب أو خطأ ولا عدل أو مساواة إلا ما تراه أو ترسمه دوائر المركز المتحكمة في كل القرارات؛ فهي تتحكّم في كل السّلط بامتلاكها آليات تجعلها قادرة على التحكم في الهامش والسيطرة عليه، ممّا يولّد الصراع بينهما وهو صراع لا تمليه ظرفية أو إرادات محددة بل هو صراع يجد صداه في التاريخ، ولنا عبر كثيرة في ذلك.
س _ في صراع الهامش و المركز يحاول كل طرف أن يكرس صور تفوقه عبر شتى الآليات، فهل يمكننا القول بأن الهامش/ الريف قد تمكن من الصمود الرمزي في وجه المركز/ المخزن، بحيث تألق في صناعة صورة الاحتجاج الحضاري السلمي ذي المطالب المشروعة؟
ج – لقد عرف مقتل محسن فكري تضامنا كبيرا في جلّ المدن المغربية حيث واكبت السلطات كل الاحتجاجات بما يضمن السلمية غير أن مدينة الحسيمة لوحدها بقيت تنادي بالإصلاح الذي انبثق من واقعة مقتل محسن فكري وكانت لا تتعدى المئات قبل أن يرتفع العدد بعد صدور بيان الأحزاب المشكلة للحكومة الجديدة والتي اتهمت المحتجين بالانفصاليين والذي كان من جهة، بمثابة الزّر الذي غيّر مجرى الاحتجاجات من طبيعية لمنزلقة، ثم محاولة استمرار النظام السياسي في سحب الشرعية السياسية والاجتماعية من هذا الحراك الاحتجاجي وربطه بأشكال التمرّد والرغبة في زعزعة أمن الوطن واستقراره. بدأ هذا عندما برزت بعض الشخصيات الكاريزمية على رأس قيادة الاحتجاجات في الريف، يتعلّق الأمر بشخصية ناصر الزفزافي ونوال بنعيسى وسيليا وشخصيات قيادية أخرى. واعتقالهم في رأيي هو محاولة يائسة لاغتيال المستقبل ومعه الحلم والأمل، فهم وباقي رفاقهم جيل النضال الجديد. احتجاج الريف إذن، هو حركة قوية تحمل مطالب ذات خصوصيات مجالية لكنها في العمق مطالب عامة تعتبر المدخل الرئيس لبناء الدولة الحديثة عبر أبواب ثلاثة:
- باب الحرية
- باب الكرامة
- باب العدالة
ويمكننا القول: إن هذا السلوك الاحتجاجي هو فعلٌ مبني على رغبة الإنسان في تغيير واقعه عبر رفضه واستنكاره للظرف الاجتماعي أو السياسي وكل أشكال الاستبداد. وعندما لا يُسمعُ صوته من قبل أصحاب القرار يشعرُ بالإهانةِ وعدم القيمة، فيندفع لإثبات العكس من خلال احتجاجات في رسائل مسنّنة أو عبر دعامات تواصلية وتعبيرية أهمها: اللاّفتات والملصقات والأقمصة والمناطيد والشعارات والكتابة على الجدران…وتتضمّن كل هذه الدعامات رسائل مفادها: «أنا موجود فاسمعوني» أو «أنا أحتج إذن أنا موجود»، وهي صيغة غاية في التفلسف والتشبّع بقيم الوعي، خاصة، إذا كان الاحتجاج لا يراد به الانضمام الأرعن إلى أسلوب التمرّد. وتعدّ لغة الاحتجاج الشرارة الأولى نحو حرية الأفراد، غير أنها أيضا نار أو هشيم ينتشر بفضل الطبيعة الاجتماعية للمعنى. فالاحتجاج في أمسّ الحاجة لكل شخص سواء كان زعيما أو أتباعا. ولا شيء في مشهدنا اليومي ما يدلّ عن الاحتجاج بصورة أكثر حماسة، من قدرة العلامات على السفر من معاناة لأخرى ومن وسط لآخر ومن ثقافة لأخرى بشرط أن توحد الدينامية الأنثربولوجية العميقة، الإنسانية لمواجهة كلّ أشكال الظلم والاستبداد. إن المشهد الأكثر استثنائية والذي يمكن للمحتجين تقديمه هو عندما نشاهد هذه النيران تغذّي نفسها، فتنبثق منها الشرارة شيئا فشيئا، فتنتشر وتندلع وتتحول إلى نار حارقة يشتدّ لهيبها فيصعب إخماد سعيرها، لتلتهم كل شيء. إنها نار الظلم والاستبداد…فالاحتجاج السلمي يبدأ قولاً، شعراً ونثراً ونكتةً ثم صراخاً، لينتقل إلى مرحلة الفعل من مظاهرات واعتصامات ومقاطعة اقتصادية ثم إلى فعل احتجاج منظمٍ متكرر، ليصبح مقاومة مدنية، فيتصاعد إلى احتجاجٍ عنيف في ظل المقاربة الأمنية. وإن لم يجد استجابة فالنتيجةِ حربٌ وانقساماتٌ تهدد كيان البلد ووحدته.
س _ هل يمكننا الجزم بأن الإعلام الموالي للسلطة/ للمركز قد فشل فشلا ذريعا في تشويه صورة الحراك الريفي رغم ما بذله من جهد؟
ج- كما في العديد من المناسبات فقد ألفنا أن إعلامنا يغرّد خارج سرب القضايا المصيرية التي تهمّ الشعب والجماهير فهو لم يكن للأسف إعلاما عموميا ناقلا للحقيقة ومجسِّدا للمهنية مستندا على قيم الموضوعية والحياد ويخدم مبادئ التعددية الفكرية والمجالية في إطار الوحدة، بل كان إعلاما مسخّرا ومضلّلا في سرده للعديد من الأحداث والوقائع وهو إعلام لم يكن متاحا أمام المحتجين و النشطاء لإيضاح أفكارهم ومواقفهم… بالمقابل يمكننا أن نتساءل كيف تتفاعل ثقافة الاحتجاج مع تطور وسائل الإعلام، وخاصة الرقمية منها؟ وبشكل أكثر تحديدا، كيف يمكننا وصف ديناميات الاتصال التي تميز الاحتجاج في علاقته مع الشبكات الاجتماعية؟ إن هذه الشبكات الاجتماعية لا تعطي الذات الفردية الفرصة للتعبير عن احتجاجها فحسب، بل إنها تساعد أيضا على تعزيز القيمة الثقافية للتعبير عن هذه الذات من خلال مشاركة وتفاعل باقي المستعملين لهذه الشبكات. ومن ثم فإن الشبكة الاجتماعية هي منصة متميزة واستثنائية للتعبير عن احتجاجات فردية وجماعية من خلال نشر بنيات وأنواع سنَنيَّة رمزية معبّرة عن الحدث. ويوفر الأنترنيت بنيات ومساحات بديلة عن الإعلام العمومي تمكّن الذات والجماعة معا من التعبير عن احتجاجاتها بسهولة.
س _ تمكن حراك الريف في سابقة من نوعها من صناعة أيقونة للحراك سواء ناصر الزفزافي أو سيليا أو جلول و نبيل…هل هذا يعني أن الحراك الريفي/ الهامش قد نجح على مستوى سيميائية الصورة و الرموز في كسب المعركة أو على الأقل كسب الجولة الأولى من المعركة؟
ج – باختصار شديد، إن الاحتجاجات السلمية الريفية في أبعادها الحضارية، سواء كانت احتجاجات لفظية أو بصرية، فقد أعطت صورة لكل العالم عن نضج الحركات الاحتجاجية في مغربنا ويعدّ هذا إفرازا موضوعيا أملاه السياق التاريخي الراهن ضدّا على الأنماط التنظيمية والمؤسساتية التقليدية غير الديمقراطية التي فشلت في بناء الدولة المواطنة والدولة الديمقراطية بكل مداخلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحقوقية…أي ترسيخ فكرة دولة المواطنة بدل دولة الرعايا.