آخر الإدراجات

السّميائيات الثّقافية مفاهيمها وآليات اشتغالها المدخل إلى نظرية يوري لوتمان السميائية

السّميائيات الثّقافية مفاهيمها وآليات اشتغالها المدخل إلى نظرية يوري لوتمان السميائية

المقدمة         

خلال الستّينات من القرن الماضي، طَفَت على سطح مياه العالَم الأكاديمي الأوروبي الهادئة كلمتان مُقلقتان أحْدَثَت فيها ارتجاجا. هاتان الكلمتان هما: السّميائيات والبنيوية. ولقد كانت باريس هي مركز هذا الإشعاع العلمي، رغم أن هذه الظاهرة انتشرت بشكل مطّرد في جميع أنحاء أوروبا والعديد من الجامعات في أمريكا الشمالية واللاّتينية.

إن الآثار المدمّرة التي أحدثتها هذه المقاربات الجديدة للغة ودراساتها للغات الفن كذلك في بريطانيا، قد تمّ تدوينها في رواية «عالم صغير» لِديفيد لودج، وهو ما يعني أن الأعمال الأدبية قد تكون في كثير من الأحيان، أكثر إخبارا وتوقّعا لما سيكون عليه العالم والكون المحيط بنا من العديد من الأطروحات العلمية.[1]  نُشرت رواية «عالم صغير» في عام 1984، في الوقت الذي كانت فيه سلسلة من الترجمات الإنجليزية للنصوص السميائية الروسية، والتي أنجزها الباحثان ميشيل تول وآن شوكمان في كتابهما «الشعر الروسي في الترجمة»، قد عرفت تقدما ملموسا منذ سنوات، ومع ذلك فخلال الستينات والسبعينات كانت أعمال يوري ميخائيلوفيتش لوتمان أكثر شهرة وتداولا في القارة أكثر ممّا كانت عليه في بريطانيا. فاهتمامه بالدراسات البنيوية للغة بتأثير من جاكبسون، قاده إلى الاهتمام أيضا بأعمال مدرسة براغ، مما أهّله لإعادة اكتشاف إرث الشّكلانيين الروس لسنوات العشرينات.[2] وإلى حدود هذا الوقت،لم يُعرف عن الشّكلانية الروسية أيّ شيء سوى النّص الأصلي لفيكتور إيرليش.[3] وفي عام 1965، ترجم تزفيتان تودوروف العديد من نصوص الشّكلانيين الروس إلى الفرنسية.[4] وشيئا فشيئا أصبحت الأمور في تطور مطّرد وتُرجمت أهم أعمال شكلوفسكي وتوماشيفسكي وتينيانوف إلى اللّغات الأوروبية وخاصة إلى الإيطالية. وموازاة مع هذا التطور والاهتمام بنصوص الشّكلانيين الروس، اكتشف الباحثون في إيطاليا وفرنسا السّميائيين الروس وتحديدا سميائيو مدرسة موسكو وتارتو؛ يتعلق الأمر بشخصيات مثل: إيفانوف وريفْزين وأوسبنسكي وزولكوفسكي وسيغلوف وسيجال وتوبّوروف وإيغوروف، فضلا عن اِسمين من الجيل السابق هما: اللساني سوميجان وعالم الرياضيات كولموغوروف. ووسط هذا الكمّ الهائل من الأسماء والبحوث، برز اِسم يوري لوتمان وخاصة في المجلة التي كانت تصدرها حلقة تارتو السميائية المعنونة بـ: «دراسات أنساق العلامة».[5]

    لقد انصبّ اهتمام يوري لوتمان خلال مساره الفكري نحو طرق مباحث معرفية غاية في الدّقّة والعمق وهي مباحث، علم الجمال والشعرية والنظرية السميائية والفيلولوجيا وتاريخ الثقافات والأسطورة والسينما، إضافة إلى اهتمامه بموضوعات جوهرية في تاريخ الآداب الروسي.[6] وقد باشر في أعماله مقاربة العديد من الظواهر الثقافية انطلاقا من قراءته لنصوص شعرية وغيرها، آخذا في الاعتبار كل ما يتعلق بقضايا التأويل في أبعاده التعددية والثقافية ورهانه في ذلك بلورة مشروع سميائي قادر على تجسير المسافة (مدّ الجسور) بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقّة وخاصة الرياضيات. لذلك يبدو من المفيد في هذه الكتاب الإشارة لبعض المفاهيم الجوهرية التي ينبني عليها مشروع يوري لوتمان السميائي ممّا يسهم في تحقيق فهم أفضل لأفكاره ومحاولة تقريبها للقارئ العربي، خاصة وأن مدرسة تارتو السميائية عموما التي يعدّ يوري لوتمان أحد أعلامها البارزين تأخذ في الاعتبار ما يلي:

  • التركيز بشكل قوي على نظرية الثقافة، وعلى فهم الآليات السميائية العميقة للظواهر الثقافية،
  • التسلسل الهرمي في أبعاده الإنتاجية والدينامية والتداولية والنظر إلى العلامة السميائية في علاقاتها وفي بعديها الثنائي والثلاثي،
  • نهج مقاربة لدراسة أصول السميوزيس أو السيرورة المؤدية إلى إنتاج وتأويل الدلالات في بعديها الثقافي والحيوي، مع الجمع المثمر بين المستويات الثقافية والبيولوجية لسيرورات وأنساق العلامات؛ أي الربط بين سميائيات الثقافة والسميائيات الإحيائية (البيوسميوتيك[7]
  • –       نهج مقاربة تتمحور حول دراسة الآليات العميقة للتوازن والاختلال الثقافي.

  ولقد أكّد لوتمان في الستينات من القرن الماضي، حسب أمبرتو إيكو، على أهمية وجدوى المقاربة البنيوية، وتطبيق مناهج العلوم الحقّة في الدراسات الأدبية. ممّا يعني، أنه لا يزال وفيا لمعارضة فيرديناند دي سوسير بين اللسان والكلام ولما تمّ اقتراحه من لذن رومان جاكبسون بخصوص نظرية التواصل والسّنَن والرسالة. ففي سنة 1967، كتب دراسة للمجلة الإيطالية Strumenti critici حول «المناهج الحقّة في الآداب الروسية»، مفادها أنه:

  1. يجب القضاء على كل فكر يعارض أو يفصل بين العلوم الحقّة والعلوم الإنسانية.
  2. إن دراسة الأدب، إذا ما تمّت بطريقة تاريخية بحتة، فإنها يمكن أن تُدمج مع تاريخ الفكر الاجتماعي.
  3. يلزمنا التفكير أثناء مقاربتنا لنصوص أدبية في التكامل المعرفي بين اللسانيات والسميائيات والرياضيات والنظرية المعلوماتية ونظرية الإخبار والسيبيرنطيقا والإحصاء…
  4. تشكّل الأنساق السميائية نماذج قادرة على إعطاء تفسير للعالم الذي نعيش فيه ولكلّ سلوكاتنا داخله. (وبتفسيرها لهذا العالم فإنها أيضا قادرة على بنائه. يُفهم من هذا أن السميائيات عند لوتمان هي نظرية معرفية إدراكية.) ومن بين كل هذه الأنساق تعدّ اللغة النسق المنمذج الأولي الذي يمكننا من القبض على العالم والإمساك بمحتوياته بناء على ما تقترحه من نماذج. بينما تعدّ الأسطورة والأنظمة الثقافية والدين والفن والعلم أنساقا منمذجة ثانوية. وبلغة إيرنيست كاسيرير أشكالا رمزية. لذا يلزم كذلك دراسة هذه الأنساق السميائية لأنها تمتلك آليات قادرة على مساعدتنا في فهم أفضل للعالم، وفي تمثّل هذا العالم والتعبير عنه بطرق متعددة وبرؤى مختلفة.
  5. إذا كانت النصوص قادرة على تقديم رؤية ما للعالم، فإن مجموع النصوص المعبّرة عن حقبة ثقافية ما ينظر إليها باعتبارها نسقا مُنَمْذِجا ثانويا. وبالتالي، فمن الضروري القيام بمحاولة لتصنيف وتحديد أنماط الثقافات، لاكتشاف المظاهر الكونية المشتركة بين كل الثقافات وتحديد أنساقها وأنظمتها الخاصة التي تمثلها لغة تلك الثقافة.  
  6. عندما يتم تحليل ثقافة ما بوصفها سنَناً أو نسقا – كما يحدث مع اللغات الطبيعية- فإن تفسير سيرورات استعمال هذه الثقافة يكون أكثر ثراء وأقلّ توقعا من التفسير الذي يقدمه النموذج السميائي. وبمعنى آخر، فإن إعادة بناء سنن ثقافة ما، لا يعني تفسير كل ظواهر هذه الثقافة، بل هو يتيح لنا معرفة السّبب الذي جعل هذه الثقافة تنتج تلك الظواهر.[8] 

   وعلى أيّ، لقد فطن يوري لوتمان إلى أن النظر إلى النص باعتبارها رسالة مبنية وفق سنن لساني ما، ليس هو بتاتا، النظر إلى النصّ (أو الثقافة باعتبارها نسقا مركّبا من النصوص) باعتباره سَنناً (شفرة)، لأن لوتمان كان على بيّنة بأن كلّ فترة تاريخية لا تملك سننا ثقافيا أُحاديا وموحَّدا، بل إننا نجد داخل الثقافة الواحدة مجموعة من الشّفرات. ويبدو أن التعامل مع هذا الإشكال أظهر أن لوتمان تجاوز الدّغمائية البنيوية نحو مقاربة أشدّ تعقيدا لكنها أكثرَ إعرابا وإبانة وأشدّ انفتاحا ومرونة.

   إن هذه المقاربة هي ما حاول هذا الكتاب الإجابة عنها، بطرقه لمجموعة من القضايا والمفاهيم الجوهرية المرتبطة بالدراسة السميائية للثقافة والثقافات عبر فصول ومباحث شكلت معمار الكتاب وهندسته.

خطاطة الكتاب

   قسّمنا الكتاب إلى بابين؛ خصصنا الباب الأول لعرض أسس ومفاهيم سميائيات الثقافة، وقد ضمّنا هذا الباب خمسة فصول حلّلنا وناقشنا فيها مجموعة من القضايا المرتبطة بنظرية يوري لوتمان السميائية. وقد تتبّعنا في الفصل الأول مسار هذه النظرية من خلال إبراز ضرورة السميائيات في الحياة وموضوعها وتحدياتها؛ وهي في اعتقادنا ضرورة مزدوجة تُدرك تارة باعتبارها ميزة خاصة بالإنسانية، وتارة أخرى باعتبارها معرفة علمية ضرورية تساعدنا على التفكير وعلى تنمية وعيينا وإحساسنا بطبيعتنا الثقافية غير المدركة. ولهذه المسألة، علاقة جوهرية بمطلب أساسي لكنه منسي في الدراسات السميائية، يتعلق الأمر بالفكرة القائلة بأن التحليل السميائي لا يمكن النظر إليه فقط على أساس أنه شكل من أشكال المعرفة الفكرية، بل أيضا بوصفه فعلا يتطلّع باستمرار نحو تغيير الواقع وتفكيك أنظمة تناقضاته. وقد اهتممنا في الفصل الثاني »الثقافة بوصفها نسقا« والفصل الثالث »الثقافة باعتبارها نصا« والفصل الرابع »الكون السميائي« والفصل الخامس »سميائيات الثقافة والذاكرة« بتحديد مفاهيم يوري لوتمان السميائية، وكيف تشتغل هذه المفاهيم في التطبيقات بوصفها آليات ناجعة للتحليل الثقافي. لقد رصدنا في الفصل الثاني أهمّ البنيات (النسقية) الكبرى للثقافة، وكيف نظَر يوري لوتمان[9] للثقافات باعتبارها جزءا من الكون السميائي أو بوصفها موضوعات تواصلية وأنساق دلالية. إذ تعدّ الثقافة مجالا لتنظيم الأخبار والمعلومات في المجتمع الإنساني. وتعتبر آلية الثقافة بمثابة جهاز قادر على التحويل والتحكّم في المحيطين الداخلي والخارجي. وقد أشرنا في الفصل الثالث لأبرز البنيات (النصّية) الثقافية الصغرى. ولقد كان لوتمان هو السبّاق للحديث عن السميائيات الثقافية، من خلال تركيزه على الدائرة الثقافية النسقية التي تعتبر بأن كل نصّ ما، هو نصّ متورّط ومسؤول عن تصريف مجموعة من القيم والأنساق الثقافية والاجتماعية والإيديولوجية… داخل مجتمع ما. وعلى الرغم من أن محاولاته الأولى ارتكزت على السميائيات النّصّية إلى أنه استطاع مباشرة وفي ظرف وجيز بلورة مقاربة جديدة، أكّدت بشكل جوهري على أن تحليل أيّ نصّ ما، هو تحليل خاضع لتحديد السيرورة الثقافية ونقلها، ويعدّ كل نصّ بمثابة أرضية لملتقى العديد من التّسنينات يتمّ بموجبها تشكيل علاقات وبنيات جديدة.  

   ويقترح الفصل الربع، سُبلاً نظرية ومنهجية قادرة على النظر في العلاقات المركّبة بين الكلّ والأجزاء بين النظام والفوضى بين المعنى واللاَّمعنى من خلال بعض المفاهيم الجوهرية في السميائيات المعاصرة وما يمكن أن تكون عليه سميائيات الثقافة والثقافات في المستقبل، وهي مفاهيم الكون السميائي بكل مفارقاته وتناقضاته البنيوية -كما عرفه وصاغ حدوده السميائي الروسي يوري لوتمان، وكذا امتدادات المفهوم داخل حقل الدراسات الأدبية والعلوم المعرفية والأنثربولوجيا والإعلام والسرديات الثقافية والهويات البصرية…، ويعدّ هذا المفهوم الأكثر غنى وإنتاجية في سميائيات يوري لوتمان الثقافية  بمفاهيمه ( التقابل الثنائي واللاّتجانس واللاّتماثل والمركز والهامش والحدود…) والتركيز على هذا المفهوم نابع من قدرته على منح المشتغلين في حقل السميائيات وتحليل الخطاب عامة برنامجا عمليا يستوعب الحمولة الدلالية للتحولات التي تشهدها الأنساق الثقافية والمعرفية والاجتماعية في عصرنا الحاضر قصد فهم دينامياتها وكشف تناقضاتها وفك سننها. ولهذا المفهوم صلة وثيقة بمفهوم الثقافة والذاكرة وهي المفاهيم التي أبرزنا بعض خصوصياتها في الفصل الخامس، إذ يركز هذا الفصل على أحد المسلّمات الأكثر أهمية في نظرية لوتمان والتي تعتبر الثقافة انعكاسا للفكر الإنساني، يتحوّل بموجبها الكون السميائي إلى  نموذج للمعرفة والإدراك. فالثقافة تتيح لكل فرد من أفراد المجتمع التعرّف على تجارب المعاصرين والأسلاف وتضعها رهن إشارته، لانتقاء ما هو إيجابي أو تجنب ما هو سلبي. إن ما تقوم به الثقافة داخل المجتمع هو نفسه ما تقوم به الذاكرة للفرد. إنها آلية جماعية لتخزين المعلومات. إن الذاكرة بتعبير لوتمان، هي أشبه ما تكون بمولِّد يعيد إنتاج الماضي من جديد. أي إنها قادرة على تحويل كل السيرورات التي نقلها إلينا الفكر من الماضي… إن العلاقة المتبادلة بين الذاكرة الثقافية والتأمّل الذاتي هي علاقة تشبه الحوار المستمرّ والدائم: فالنصوص المنحدرة أو المعبّرة عن فترات زمنية سالفة يمكن ضمّها إلى الثقافة فتتفاعل مع الآليات المعاصرة، وتولِّد صورة للماضي التاريخي الذي نقلته الثقافة، وتصبح شريكا مساويا في الحوار، لها القدرة في التأثير على الحاضر. بهذا المعنى تكون الذاكرة صورة عن الماضي وقد أُعيد إنتاجها في الحاضر لتعطيه شكلا جديدا. إنها أيضا حصيلة حوار بين هذا الماضي والحاضر. و على هذا النحو فإنها تتضمّن وتنطوي على ترجمة ودمج النصوص الماضية والموروثة عن الأسلاف في النسق الثقافي الحاضر. وبمعنى آخر، فإن النصوص لا تقف عند نقطة واحدة من التطور، إنها تعود من الماضي الثقافي بدلالات جديدة في كل عصر جديد، كما أن خلود  النصوص يعدّ ضربا من الأوهام، وأن الثقافة بسطوتها الهائلة وتغيرها المستمرّ تحدّ مع الزمن من سطوة النصوص أيًّا كانت طبيعتها. وإن الذاكرة مثلها مثل الثقافة، تعدّ نسقا متحركا تخضع لتغييرات وإعادة كتابة مستمرة. فإذا كانت ظاهرة التحول أو النقل داخل الثقافة مرتبطة بالترجمة، فإنها داخل الذاكرة مرتبطة بالتوتّر الجدلي بين الذاكرة والنسيان. فالنسيان هو المظهر الآخر للذاكرة، إنه عنصرها الجوهري والمكوّن لها، رغم أنه لا يُعترف له دائما بهذا. وتشتغل الذاكرة دائما عبر مصافي مختلفة ومتنوعة، وهي مصافي ثقافية ثم سياسية وإيديولوجية، تنتقي محتويات وتستبعد أو تقوم بإقصاء أخرى. وإن التفكير بعمق في ميكانيزمات هذه التصفية يسمح لنا بفهم أفضل لبعض ميكانيزمات خلفيات النسق الثقافي والقيم التي يروّجها هذا النسق. فإذا كانت الذاكرة تشتغل بوصفها مصفاة فإنها سوف لن تكون تسجيلا أو تدوينا بسيطا ونقلا مسترسلا للأحداث، بل إنها تملك دائما طابعا ترميميا أو إعادة بناء: فالمصافي لا تنتقي سوى بعض العناصر ذات الطبيعة المستقبلية، واعتماد وجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى. إن الذاكرة ليست تسجيلا أكثر أو أقلّ وفاء، ولكنها إعادة كتابة. لقد تمّ تشييدها بواسطة وعبر النصوص التي جعلوها تتكلم وعبر العديد من عمليات إعادة الكتابة التي تحوّل باستمرار الحدود الثابتة بين ما يبدو أنه يستحق التذكّر وبين ما هو خامد يقتصر على النسيان. داخل هذه السيرورة يحدث شيئا استثنائيا: فكل سرد جديد يعتمد على التذكّر ينضاف للقديم، فيصبح جزءا بنيويا من الحدث نفسه وهو ما يجعلنا نستنتج أن الذاكرة تشتغل بطريقة غير خطّية أي عبر انزياحات تربط بين الواقعة والتذكّر.[10]

     أما الباب الثاني: تطبيقات سميائية، فقد حاولنا من خلاله إظهار المردودية التحليلية للسميائيات الثقافية وللطريقة التي تنتج بها العديد من الأنساق معانيها، إدراكا منّا أن السميائيات التطبيقية على حد قول أمبرتو إيكو منطقة ذات حدود غير دقيقة، لهذا فضلنا أن نتحدث عن ممارسة تأويلية ووصفية وهو ما جعلنا نُبعد مسألة العلمية في بعدها المنهجي الصارم، وكان الأساس هو التحدث عن مسألة الإقناع والفائدة في فهم النص انطلاقا من ثقافة الموؤِّل، والقدرة كذلك على جعل الخطاب حول نصّ ما، قابلا للتحكّم فيه بصفة مشتركة. لقد استعنّا بالنموذج التأويلي الذي صاغه يوري لوتمان في الكون السميائي كأساس لمهمتنا، وقد مكّننا هذا النموذج من إمعان النظر في مجموعة من الظواهر لنقيس الإمكانية الإرشادية لهذا النموذج النظري، ونقيم مقدار فائدته في فهم الظواهر الثقافية وتحليلها. لذا اكتفينا في هذا الباب من خلال فصوله:  

  1. السميائيات وإرهاب الصورة والأنترنيت ونظريات المؤامرة.
  2. سميائيات الاحتجاج، خطاباته وبلاغته وقوته الإقناعية.
  3. السرد والبناء السميائي للذاكرة.

 بتقديم تأمل بسيط حول بعض الأنساق الثقافية، وتحديدا ما يتعلق منها بالأنساق البصرية بوصفها إجراء معرفيا وإدراكيا يتفاعل فيه الإيديولوجي والجمالي. كما أن التركيز على هذه الدعامات يبدو أمرا جوهريا لما لها من خصوصيات:

 إيجابية تسهم فيه الأنساق البصرية في إظهار ثقافات العالم وجعلها مُدركة حتى في اختلافاتها وتبايناتها.

سلبية لأن الأنساق البصرية، في كثير من الأحيان، تسهم في الوقت الحاضر في تقديم هذه الثقافات في أشكال مقنّعة ومشوّهة، ويعدّ هذا ضربة لطمس الثقافات ومواجهة بعضها بالآخر.

كما أن البحث في الأنساق، يحمل في اعتقادنا رؤية جديدة داخل نسقنا الثقافي العربي يقوم منطقها على ربط العمل الفني بما توصل إليه الدرس اللساني والسميائي الحديث. ولفهم هذه الرؤية وكذا الفروق الدقيقة المحيطة بها، يلزم التركيز على سياقها المعرفي والوظيفي. يتعلق الأمر بملمح المعنى الذي نودّ معالجته والنظر إليه باعتباره سيرورة تعاقبية يمكن النظر إليها لا بوصفها آليات الدخول والخروج البانية لنماذج تكنولوجيا المعلومات، ولكن بوصفها سيرورة سميوزيسية ديناميكية لإنتاج وتلقي المعنى.

عموما، فقد وصفت نظرية لوتمان بأنها تطور من البنيوية إلى السميائيات الثقافية، حيث يتم النظر لهذه الفترة الأخيرة على أنها تفنيد للمقاربة السابقة وانفصال عنها. لهذا يستحيل علينا، من هذه الزاوية، وصف المشروع العلمي والسميائي ليوري لوتمان بدءا من 1960 إلى 1990 واختزاله في لغة واصفة واحدة. على العكس، يقدم كتابنا هذا مقاربة أو نهجا مختلفا، حيث يركز على استمرارية وتكامل أفكار لوتمان وربط السابق من أعماله باللاحق. وفي تقديرنا وتدبّرنا لنظرية لوتمان السميائية فقد اعتمدنا على استراتيجيه قرائية ساءلت مواضع هامّة من تجربته ومشروعه السميائي، وهي مقاربة لا تغطي المشروع في كليته، ولا تدعي اﻹحاطة الشاملة بمحتويات فصوله، حتى ولو أرادت لنفسها ذلك، وإنما هي مقاربة توسلت فيها بأفقين قرائيين:

  • أفق خارجي يرجع مشروع يوري لوتمان السميائي إلى منطلقاتة الفلسفية والعلمية التي استقى منها مادته المعرفية،
  • وأفق داخلي حاولت من خلاله رصد وتحليل الطريقة التي تشتغل بها مفاهيم السميائيات الثقافية عموما، ومفهوم الكون السميائيبالذّات، نظريا وتطبيقيا، من خلال بنياته والعناصر المكوّنة له والمتعالقة معه.

وإن هدفنا لن يتوقف عند هذين الأفقين، بل إن طموحنا يتجه نحو استنبات أفق ثالث أو بالأحرى السعي نحو تأصيل معرفة نقدية جديدة قادرة على التعاطي مع مختلف الظواهر الثقافية من منظور سميائي، ودور هذه المعرفة في تجديده الفعل النقدي العربي من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى وإشكالاته وأشكال تصريفه وتداوله.

رهان هذا الكتاب

   إن هذا الكتاب موجَّه قبل كل شيء إلى الباحثين والطلبة المهتمين بالتحليل الثقافي والسميائي والبحث الذي تتقاطع فيه مجموعة من التخصصات. ويمكن أن يكون بالنسبة لبعض الباحثين بمثابة مدخل لمشروع يوري لوتمان السميائي والسميائيات الثقافية عموما، وفرصة لتعميق وتبادل الأفكار والمعارف حول سميائيات لوتمان واستكشاف تنوع أفكاره وتحديثاته في ظل الدراسات السميائية المعاصرة. وكل رجائي أن يجدوا فيه بعضا ممّا يساعدهم في دراساتهم وأبحاثهم الخاصة.

    وفي الختام، نقول مع الباحثة السميائية الإيطالية أنا ماريّا لوروسّو: إذا كنّا نرغب في فهم الظواهر الثقافية والأنثربولوجية الأساسية حقّ الفهم، (وهي بمفردات إيكو: إنتاج الأدوات التي تعمل على تغيير العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والعلاقة بين الأقرباء، والتبادلات الاقتصادية)، فإنه سيسهل علينا معرفة أن ما يقع في جوهر اللعبة في كل مرّة ليست الجوانب المغرقة في المادية، وإنما ما يتعلق بهذه الجوانب المادية من محددات ووظائف ثقافية واجتماعية لها صلة بالمحددات والوظائف القِيَمية التي تقرر الأسماء والألقاب ذات الطبيعة اللُغوية. إنه لفي العلاقة بين الوظائف الاجتماعية والقيم والعلامات يكمن هذا التّواشج السميائي بين الثقافة والمجتمع، ولهذا السبب نجد أن المقاربة السميائية ضرورية أيضا للوصول إلى الفهم المعقول للعالم الثقافي، حتى في أكثر جوانبه مادية وواقعية. ولا تقوم الممارسة الثقافية على استخدام آلية محددة لأداء مهمة محددة، ولكن جزءًا من الثقافة أن نفهم كيف تتواتر الرسالة الثقافية، وأن ننقل هذا العلم. وهنا يكتب إيكو متأثرًا بـ رولان بارت في كتابه المعنون بـ: «عناصر السميولوجيا» «عندما يوجد المجتمع تتحول كل وظيفة بشكل آلي، إلى علامة لهذه الوظيفة دالّة عليها، وهذا لا يتأتّى إلا في وجود الثقافة، ولكن الثقافة لا توجد إلا بهذا أيضًا». أضف إلى ذلك أن الثقافة تمارس عملها على المستويات الأولية جدّا، بعيدا عن التجريد والإغراق في المادية من خلال علامات متغايرة الدلالة بطبيعتها (حسب ما قرره دي سوسير، وحسب ما كان يراه البنيويون إجمالاً)، فهي تنطلق في عملها من الاختلافات، وتُشيِّد أبعادًا فارقة من التغاير والتعارض والتناقض.[11]


[1]-Yuri M. Lotman. Universe of the Mind.  A Semiotic Theory of Culture; Translated by Ann Shukman, Introduction by Umberto Eco, I.B. TAURIS & CO. LTD Publishers London. New York.1990. P.vii/viii.

[2]-Yuri M. Lotman. Universe of the Mind.  A Semiotic Theory of Culture; Op. Cit. p.x.  

[3]– Victor Erlich, Russian Formalism. New Haven, Yale University Press, 1954.

[4]– Tzvetan Todorov, Théorie de la littérature – Textes des formalistes russes Paris, Seuil, 1965.

قام الناقد المغربي إبراهيم الخطيب بترجمة هذه النصوص إلى اللغة العربية بعنوان: نظرية المنهج الشكلي. نصوص الشكلانيين الروس. الشركة المغربية للناشرين المتحدين، و شبكة الأبحاث العربية، بيروت، 1982.

[5] -Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture; Op. Cit .p viii.

[6]

[7] – البيوسميوتيك أو سميائيات الكائن الحي، هي فرع من البيولوجيا والسميائيات تقوم بدراسة كل مظاهر العلامات البيولوجية أو الأنظمة الحية في سيرورتها الدلالية إنتاجا وتسنينا وتواصلا. أي إنها تسعى لفهم سيرورة الحياة. للمزيد ينظر:

– Favareau, D. ed. 2010. Essential Readings in Biosemiotics: Anthology and Commentary. Berlin: Springer.

Emmeche, ClausKull, Kalevi eds. 2011. Towards a Semiotic Biology: Life is the Action of Signs London: Imperial College Press.

Hoffmeyer, Jesper 2008. Biosemiotics: An Examination into the Signs of Life and the Life of Signs. Scranton: University of Scranton Press.

[8] – Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture; Op. Cit. p x.

[9]– ولد يوري ميخائيلوفيتش لوتمان في عائلة مثقفة في بتروغراد (سانت بيترسبورغ)، روسيا، في 28 فبراير1922. أبوه ميخائيل لوتمان يشتغل محاميا وأمّه أليكساندرا لوتمان  تشتغل طبية أسنان وأخته الكبيرة إينّا أوبرازتسوفا خرّيجة المعهد موسيقي ملحّنة وأستاذة للنظرية الموسيقية وأخته الصغيرة فيكتوريا لوتمان تشتغل طبيبة أخصّائية في القلب وشقيقة ثالثة إيديا لوتمان باحثة في الأدب الروسي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.  تابع دراسته في جامعة ولاية لينينغراد في كلية الفيلولوجيا سنة 1939. درس على يدِ أساتذة مشهود لهم بالكفاءة البحثية والعلمية أمثال: غريغوري غوكوفسكي وبوريس إيخنباوم وبوريس توماشوفسكي وفلاديمير بروب وأزادوفسكي وموردوفشينكو. في سنة 1940 تجنّد في الجيش السوفياتي وشارك في الحرب العالمية الثانية ضمن فوج مدفعي، ولم يعد إلى دياره إلاّ في دجنبر 1946. وفي سنة 1950 انتقل إلى تارتو، إستونيا؛ ليدرِّس في معهد تكوين المعلمين وجامعة تارتو في قسم الأدب الروسي. في سنة 1952 قدّم أطروحته العلمية ودافع عنها في جامعة لينينغراد، فصار أستاذا مشاركا سنة 1954، وما بين 1960و1977 درّس الأدب الروسي ممّا أهّله  لرئاسة هذا القسم في الجامعة وسمح له رفقة زملائه في حلقة تارتو أيضا بنشر العدد الأول من مجلة “دراسات أنساق العلامة” Sign Systems Studies. اشتغل عضوا رسميا بأكاديمية إستونيا للعلوم. وهناك من اعتبره من بين أوائل البنيويين الرّوس بسبب مقالته حول  تحديد المفاهيم اللغوية والفيلولوجية للبنية التي ظهرت سنة 1963 وكذا أعماله حول البنية الشعرية. يتجاوز عدد أعماله المطبوعة 800 عنوانا أغلبها محتفظ به في قسم الأرشيف في جامعة تالين. ومن بين أهمّ  أعماله المنشورة كتاب “بنية النص الفني” 1970 وكتاب “تحليل النص الشعري” سنة 1972 و”سميائيات السينما” سنة 1973. و”كون الذهن” سنة 1990 و”الثقافة والانفجار” سنة 1992. وهي السنة التي تأسس فيها قسم السميائيات في جامعة تارتو.  توفي في 28 أكتوبر  في تارتو استونيا سنة 1993. وأمام الكمّ الهائل لأعماله المنشورة إلاّ أن أنه لم يترجم منها إلى اللغة العربية في حدود ما أعلم سوى عدد قليل جدا أهمها:

  • مدخل إلى سيميائية الفلم ترجمة نبيل الدبس مراجعة قيس الزبيدي، إصدار النادي السينمائي الطبعة الأولى دمشق 1989.
  • كتاب تحليل النص الشعري بنية القصيدة ترجمة وتقديم وتعليق محمد فتوح أحمد كلية دار العلوم – جامعة القاهرة دار النشر دار المعارف بالقاهرة – 1995
  • كتاب سيمياء الكون ترجمة عبد المجيد نوسي المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 2011.

إضافة لبعض المقالات المنشورة في كتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة مدخل إلى السيميوطيقا الجزء الثاني إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء 1987.

[10] -Patrizia Violi, Mémoire et traumatisme : préliminaires théoriques et méthodologiques;  IV Congrès international, Mémoire et trauma dans la culture marocaine Le Groupe  marocain de sémiotique GMS de l’Université de Meknès et l’Association marocaine de Sémiotique; 19  et 20 novembre 2015 à La Faculté des Lettres de Meknès.

[11]-Anna Maria, Lorusso, Cultural Semiotics For a Cultural Perspective in Semiotics, Semiotics and Popular Culture; First published 2015 by PALGRAVE MACMILLAN.P. 118/119.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.