مقدمة المترجم
نقدم لقراء العربية ترجمة واحد من أهم الكتب التي تناولت ظاهرة الأصولية الدينية في عصرنا الحاضر من حيث مفهومها وخطاباتها وصيغ تداولها في مجتمعاتنا المعاصرةوطرق إقناعها، يتعلق الأمر بكتاب سميائيات الأصولية الدينية خطاباتها وبلاغتها وقوتها الإقناعية لمؤلفه الإيطالي ماسيمو ليوني في طبعته الأولى سنة 2014.وما يميز هذا الكتاب، عن غيره من الأعمال التي تناولت الظاهرة الأصولية، سواء في بعدها التاريخي أو الاجتماعي أو النفسي أو السياسي أو الاقتصادي أو حتى الحقوقي،هو تركيزه المفصل على بلاغة الأصوليات الدينية، وعلى استراتيجياتها الإقناعية والظواهر الثقافية التي تنتجها وخاصة ظاهرة اللغة الأصولية، وعلى الطريقة التي تظهر وتصور بها المسار الوجودي بالنسبة لأولئك الذي يجعلون منها أسلوب حياةٍ.
ولتفكيك سنن الخطاب الأصولي الديني والآليات التي يوظفها، فقد اعتمد ماسيمو ليوني على السميائيات لإظهار كل التمفصلات الممكنة للمعنى لحظة انبثاقه وتداوله وتلقيه؛يتعلق الأمر بمفهوم السميوزيس في أبعاده الدينامية والتأويلية. وقد اعتمد بشكل خاص على السميائيات التوليدية (غريماص وهيلمسليف) والتأويلية والثقافية (إيكو بورس)وسميائيات الكون (يوري لوتمان)، اعتمادا على مرجعياتها النظرية سواء من حيث أسسها المعرفية الناظمة لتصوراتها، أو من حيث القوة التجريبية لنماذجها الإجرائية التي تسعى لتحليل التفاعلات بين الأنساق الثقافية. فالبناء السميائي للثقافة هو نسق من القواعد السميائية التي تتحول بها تجربة الحياة اليومية إلى نموذج. وإن الوظيفة الأساسية للثقافة هي التنظيم المشكِّل للكون المحيط بالكائن البشري. ويصطلح على هذا الكون في أدبيات يوري لوتمان، تحديدا، كونا سميائيا يشتغل بناء على معطيات الذاكرة الجماعية، ويجعل الحياة ممكنة خارج بعدها النفعي والبيولوجي وهو ما يعني امتلاك أفراد جماعة بشرية ما، داخل نسق ثقافي محدد خطاطة للكون أو خارطة طريق من شأنها إظهار بنية العلاقات التي تربط هذه المجموعاتبالمحيط المصاغ سميائيا، والتي تلعب فيه اللغة دورا محوريا في صياغة وتنميط هذا الكون.
إن النموذج النظري الذي اعتمده ماسيمو ليوني في مقاربة خطاب الظاهرة الأصولية الدينية غاية في الدقة والتجريد، فهو يرتبط تصوريا مع مجموعة من المفاهيم المتقاطعة، مما جعل إمكانية استثماره أثناء التحليل أمرا مهما خاصة وأن هذا النموذج السميائي يعدّ صيغة للتحليل الشمولي للأنساق الثقافية وإضاءة للمبادئ البنيوية للسميوزيس، وعبره نستطيع الانتقال من التحليل الثابت والمحايث إلى التحليل الدينامي، إنه فضاء لتوليد المعنى.
لقد خلق لنا هذا النموذج حوار نظريا، وذلك بهدف رصده للآليات الإقناعية والأشكال البلاغية المتنوعة والمتعددة التي تعتمدها الأصوليات الدينية في تصريف مواقفها وإيديولوجياتها التي تلبس لبوس الدين من أجل السيطرة على العقول الشابة، وكيف تتحول هذه العقول في رمشة عين إلى عقول أصولية متطرفة في منازلها وأمام شاشات حواسيبها دون عناء، مستغلة بكيفية متحمسة حداثة هذه الوسائلالتقنية، ولكن لكي تحارب تكنولوجيا وإيديولوجيا الحداثة التي ما انفكت، هذه الأصوليات الدينية، وما فتئت تشكك في منظومة قيمها. ولم تكتف الأصولية الدينية بهذا التشكيك، بل لقد سعت إلى رفض كل المفاهيم الحديثة حول الدولة ومسألة تداول السلطة وحق المجموعات في المشاركة في الحكم بصرف النظر عن دينها وجنسها، وتكريس الحقوق السياسية والإنسانية في الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون، وهي مبادئ أتت بها التطورات السياسية الحديثة بعد نضال قادته شعوب متعددة وكرسته في منظومة حقوق الإنسان تحت عنوان تحقيق الديمقراطية وحق الشعوب في الوصول إلى إنجازاتها. ويأتي هذا الرفض تطابقًا مع التمسك بأفكار الماضي واعتباره المقياس الذي يجب أن يقوم عليه الحاضر فكرًا وممارسة مع تغييب كل مظاهر التحول الزمني. إن الحلم المثالي لهذه الأصوليات ليس إيقاف التاريخ وأحداثه فقط، بل هو، بشكل خاص، شلّ الحرية التأويلية لجماعة دينية ما، وتعدّ هذه النقطة الأكثر خطورة في الخطاب الأصولي المعاصر، خاصة عندما يتعلق الأمر بقراءة النصوص الدينية.فالأصولي الديني، هاهنا، هو أقوى حامل للعنف؛ فما إنْ يتيقّن أن فكرته هي وحدَها الفكرة الصحيحة حتى يجيز لنفسه الادعاء بأنه وحده يمتلك الحقيقة، فيقتنع بأن الله قد أوكل إليه مهمة الدفاع عنها، وبذلك لا يأخذ على عاتقه واجب تكفير من يخالفه الرأي وحسب، بل وواجب قتاله أيضًا. إن الأصولي الديني العنيف، يعمل دون كلل، أيضا، على بلورة المعنى عبر أفعاله: وعندما يستحيل الإقناع يلجأ إلى القوة. ولتفعيل هذا الإقناع، لجأت الأصوليات الدينية إلىخلق استراتيجيات خطابية للسيطرة على الأغلبية العظمي من الشباب تبدّت في توظيفها للخطاب الديني في صيغته البسيطة والمختزلة، وهو خطاب ينبني في جوهره على خلق التنافر والمعاداة والتناقض تجاه الخطاب المعاصر والحداثي. ويتمثّل هذا الخطاب هويته وشرعيته من الفتاوى التي تبيح العنف والقتل، بهدف إخضاع رغبة المجتمع الحداثي في التطور للرجوع إلى الوراء عن طريق الترهيب والتقتيل، واستعمال كل أنواع الانتقام الأشدّ كراهية. وسواء اختارت هذه الأصوليات اليهود والمسيحيين والمسلمين وغيرهم، هدفا لعدوانيتها، فإن ما يهم فيها ليس هو الهوية العرقية أو الدينية للأعداء الذين تواجههم، ولكن في الحقيقة لأن لديها عدوا ينبغي مهاجمته، عدو يجسد مبدأ الغيرية يقوض وينسف مصدر رزق هذه الأصوليات.
إن السميائي، مع ذلك، لا يشتغل فقط بطريقة استنباطية، انطلاقا من التحليل المجرد للمعجم الأصولي وحقوله الدلالية، ولكن أيضا بطريقة استقرائية، عبر الملاحظة المنهجية للواقع الاجتماعي. وما يمكن للسميائيات أن تقدمه، أيضا، لدراسة هذه الظاهرة لا يكمن في تحليل الأسباب التي كانت وراء دفع المئات من الشباب للانضمام إلى معركة جهادية.إن السميائيات، بالمقابل يجب، أن تقترح قراءة للآليات الإقناعية التي كانت أولا وراء استقطاب وغواية وجذب هؤلاء الشباب إلى كون تأثير الأصولية الإسلامية تحديدا، وكيف اقتنعوا أيضا بالتخلي عن كل شيء للمخاطرة بحياتهم باسم الجهاد. لذلك فقد كان منطلق مؤلف هذا الكتاب بارزا وصريحا، حيث يدرك أن الزعيم أو القائد الأصولي الديني، لا يمكنه البتة الوصول إلى هذه عقول هؤلاء الشباب، والزّج بهم في غياهب مصير الفتك والتدمير والإبادة بكل معانيها، والدفع بهم إلى الانخراط في تنظيمات متطرفة واستئصالية إلا إذا كان عارفا ملمّا بكل تفاصيل وحيثيات حيوات هؤلاء الشباب: النفسية والاجتماعية والمهنية والثقافية التي تكشف عن وضعهم وانتماءاتهم الطبقية. وتعدّ هذه التفاصيل غاية في الدقة والأهمية، تساعد الزعيم الأصولي وحاشيته على بلورة خطاببلاغي لفظي أو سمعي بصري، تكون الغاية منه إبراز خصائص الأصولية بوصفها «مقترحا لأسلوب حياةٍ». إن هذا الخطاب يمتلك قوة إقناعية فائقة، في التعبير عن نفسهدون كلل، مثلما هو الحال عليه في الخطاب الدعائي الإشهاري. فإذا كان الخطاب الإشهاري يمنح هوية و يسعى إلى الحصول على لذة عبر سراب أو وهم الحرية. فإن الخطاب الأصولي يشيد الانتماء ويحث ويحرض على السعادة عبر وهم الحاجة.
إن الأساسي في الانتماء للتنظيم الأصولي الديني ليس هو فقط الظفر «بالشهادة» بوصفها حلما وقيمة متعالية، بل العوالم التي تغلّف بها هذه «بالشهادة»، وما يؤثث هذه العوالم من قيم رمزية واستعارية تتسرب بطريقة واعية أو لا واعية إلى عقل هذا الأصولي الديني. إن هذه العوالم جزء لا يتجزأ من كون أو ثقافة يبرمج وفقها هذا الأصولي سلوكه، استعداد منه للانضمام لهذه الجماعة المتطرفة أو تلك. إن هذا ما يدفعه للقتال أو الانتحار بتفجير نفسه اعتقادا منه أنهبذلك يصنع فارقا! وهذا ما يشير إلى مفارقة غريبة في تاريخ تحكم هذه التنظيمات بكل أشكالها، في سلوك الأتباعوترويضهم وتوجيههم وفق غايات نفعية غير معلنة تخدم مصالحهم ولا علاقة بما هو ديني. إن المعنى الذي يُسنَد لقيمة«الشهادة» أو ما يناظرها من القيم المتعالية، لا يمكن أن يدرك بصورة فعلية إلا من خلال تحقق هذه القيم وتجسيدها في أدوار أو وظائف داخل تنظيمات ومؤسسات تخرج هذه القيم من تجريديتها وتمنحها وجها محققا، وذلك بإعطائها مضمونا وصبّها في وعاء يتم من خلاله تحديد السياق أو التلوينات الثقافية التي تخصص هذه القيم وتخرجها من لازمنيتها المطلقة إلى زمن ومكان محددين: إنه زمن ومكان «الاستشهاد». ويتبوّأ الفضاء في هذا النموذج السميائيأهمية استثنائية، بل حاسمة لتمثيل العالم الخاص لثقافة هذا الأصولي، فبانغماسه الدائم في فضاء ثقافي ما، يخلق دائما حول نفسه كونا فضائيا منظما.
إن هذا التحول من المجرد «الشهادة» إلى المحقق«الاستشهاد» داخل فضاء جغرافي ما، هو تحول لا يتم عن طريق الصدفة، بل هو تحول محكوم باستراتيجية تنظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة سميائية وتداولية يتحكم فيها محفِلا الإنتاج والتلقي؛ أي كيف ينتج زعماء هذه التنظيمات المعنى وكيف يتلقاه الأتباع. إنها استراتيجية تتعلق بما هو خطابي، أي بنحوٍ لتوليد المعنى واستثماره في وقائع ملموسة دالة. يتعلق الأمر بتعريف المجموعة وارتباطها بعدو يلزم محوه وإبادته من جهة، وتعريف الفرد في ارتباطه بفكرة «الشهادة» من جهة أخرى، وهو تعريف وجودي متطرف يتحيّن عبر تحويل الفرد وغسل دماغه والانفصال التام عن الأسرة الأصل والهجرة إلى «أرض الجهاد» والانضمام إلى «أسرة»أصولية جديدة ثم عبر القتال والبحث عن موت بطولي. إن ما تقدمه الأصوليات، رغم ذلك، باعتباره خطابا للتعالي، ليس، في الغالب، سوى بلاغة تخفي بُعدَ الاستغلال والهيمنة وبناءالسلطة وتسلسلها الهرمي.
إن الوصول إلى أي جماعة، حيث كل تجلّ أو ظهور لها يكون باهتا إلى حد التخلص منها؛ يصنع كائنا بشريا لا يمكن أن يكون سوى ناقل سلبي لتقليد أو تراث ديني يمكن النظر إليه هو الآخر باعتباره ناقلا ساكنا للتعالي: إن هذا ليس مجرد حلم، بل هو بلاغة لها مفاهيمها وآليات اشتغالها. فعندما نحلل بنية السلطة التحكمية داخل الجماعات الأصولية، بما فيها السلطة الجوهرية للتواصل داخل الجماعة وخارجها، فإننا نلاحظ على الفور بأن آثار إيديولوجية التجلي تبقى مترسبة في نمط حياة وعيش الأصولي وغالبا ما تشغل مكانة أساسية لديه. فالجماعات الأصولية، في كل الأديان، ليست جماعات دون زعيم، على العكس من ذلك، إن العناصر الفاعلة، يمكن التعرف عليهم داخل التنظيم انطلاقا من الأدوار التي تسند إليهم بوصفهم زعماء رأي وأمناء على التقليد الحقيقي، بما فيهم القادة العسكريون عندما يتعلق الأمر بجماعة في ميدان القتال. إن هؤلاء الزعماء يختارون ويتخذون قرارات وينتقون ويحددون المناسب من الخيارات ويؤولونها. ومع ذلك فإن قوة الإقناع لديهم ترتكز على موهبة خارقة وكاريزما لا تعتمد على بلاغة التجلي، بل على بلاغة التكرار على حدّ رأي ماسيمو ليوني: فكل ما قام به الزعيم، وقاله، وأمر به يُقدم لا بوصفه خيارا ولكن بوصفه نتيجةمنطقية لمسار المعنى الذي يحدث مباشرة دون بدائل ممكنة للتعالي.
إن مقاربة الظاهرة الأصولية من منظور سميائي يحمل في ذاته مزايا متعددة نجمل بعضها فيما يلي: ففي المقام الأول،تجعلنا السميائيات نتعرّف على النواة الوجودية للأصولية وتحديدها بكيفية دقيقة منفصلة عن الخطاب الديني الخاص الذي تلْبَسه. وبعبارات أخرى، يسمح لنا التعريف السميائي المجرد للأصولية بالتعرّف كذلك على بنيتها العميقة، أي إيجاد طريقة للنظر وتشخيص المعنى الذي يوجد في كل العقائد الدينية وحتى الذي يوجد فيما وراءها. إن الأصولية هي رد فعل على الحداثة المتطرفة لأنها تعبير جوهري عن يوطوبيا الحتمية المطلقة وعن بشرية تحاول أن تتجنب عبء الاختيار، وعن عدم اليقين في الحرية. إن هذا المقاربة تسمح لنا كذلك،بمعرفة الاقتضاء والشرط الأنثربولوجي للأصولية، الذي يعدّ بدوره شرطا ضروريا لفهم قوتها الإقناعية: فإذا كانت الأصوليات الدينية قادرة على استقطاب الناس وتحويلهم إلى مرتدّين بشكل متزايد، فلأنها تمنح للأفراد أسلوب حياةٍ، لم تستطع معها المجتمعات الغربية والعربية القدرة على اقتراح ما يلبّي الحاجيات الأنثربولوجية العميقة للبشرية.
إن الطريقة الوحيدة لتقويض السلطة الإقناعية للأصوليات، لا يمكن أن تكون إلا عبر تفعيل سلسة من الإجراءات الاجتماعية والثقافية التي تهدف إلى تغيير المنظوراتالوجودية للمراهقين في المجتمعات الغربية والعربية على حدّ سواء.
عبد الله بريمي
مقدمة خاصة بالترجمة العربية
تلقيت ببالغ السرور الترجمة العربية لكتابي سميائيات الأصولية الدينية التي قام بها الزميل عبد الله بريمي أستاذ السميائيات والتأويليات بجامعة «مولاي إسماعيل» مكناس،الكلية المتعددة التخصصات الرشيدية، المغرب.
فمن طبيعة الإنسان أن يشعر بمتعة عندما يرى فكره وكلامه منتشِرا داخل لغة مختلفة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تشكل اللغة، العربية، التي ظهرت بها هذه الترجمة الجديدة، مزيدا من التحفيز ونوعا من الرّضا، ولكن أيضا مزيدا من التفكير. إن الديانة الإسلامية اليوم، وكذا، العربية،لغة نصّها المرجعي يشكلان معا إيحاء أكثر شُبهة في «العالم الغربي». وكأن بين هذه الديانة وهذه اللغة من جهة، والعنف باسم هذه الديانة وداخل هذه اللغة المنتشرة في العالم من جهة أخرى علاقة جوهرية، لا انفصام لها. إننا اليوم، عندما نتحدث مع غير المتخصصين في أوروبا، ونعلن لهم دراسةبلاغة الأصولية الدينية، فإن السؤال الذي يُطرح هو السؤال نفسه دائما وهو: هل تتكلمون العربية؟ وهل تقرؤونها؟
إن واحدة من بين نتائج هذا الكتاب الذي نقدمه هناللنسخة العربية هي إظهار، عبر الأدوات السميائية، أن الأصولية الدينية لا تتطابق ضمنيا مع ديانة أو لغة ما؛ إنها تتبع، على العكس، ما اصطلح السميائيون على تسميته«أسلوب حياة ما» أو، بصيغة أفضل، «إيديولوجيا سميائية»، أي طريقة لإعطاء معنى للحياة. إن الأصولي، وهذه هي أطروحة الكتاب الأساسية، ينتمي إلى إيديولوجيا سميائيات التكرار، وحُلمه المثالي هو إيقاف ليس فقط التاريخ وأحداثه، بل هو، بشكل خاص، شلّ الحرية التأويلية لجماعة دينية ما. إن الأصولي الديني العنيف، يعمل دون كلل، أيضا، على بلورة المعنى عبر أفعاله: وعندما يستحيل الإقناع يلجأ إلى القوة.
إن حكومات العالم بأسره، الذين يتساءلون في الوقت الحاضر عن الطريقة المثلى لإظهار هذا العنف التأويلي والجسدي، سوف لن يصلوا أبدا إلى أيّ حلّ إذا هُم استمروا في الاعتقاد بأن مصدر هذه الإيديولوجيا السميائية هو شيء يجب البحث عنه في الدّين أو في لغة ما. وعلى العكس من ذلك، إن الدين واللغة ليسا سوى موردين أو وعاءين رمزيين، تتم تعبئتهما، وغالبا ما يُساء استعمالهما، لتلبية غريزة أنثربولوجية أعمّ من ذلك بكثير. وتظهر هذه الغريزة مرارا وتكرارا في التاريخ، في رحم لغات وديات مختلفة، وفي جدليةعنيفة أحيانا مع الإيديولوجية السميائية للبروز. ووفقا لهذه الأخيرة، التي تتعارض مع الأولى، فإن المعنى لا ينبثق من تكرار، أو من طقس، أو من تقليد ما، بل من ابتكار ومن تغيير أو حتى من فصله عن الأصل.
إن هذه الجدلية بين إيديولوجيا التكرار وإيديولوجيا البروزكانت موجودة دائما وربما ستبقى إلى الأبد. إن الشيء الجديد في هذه النسخة الحالية يتمثّل، أولا، في الوسائل التكنولوجية التي تقوم بتنفيذها. فهناك البلايين من النصوص المتداولة في الشبكات الاجتماعية تشكل اليوم الحلَبة الأساسية التي تسعى من خلالها الإيديولوجية الأصولية الدينية وعنفها للبحث والعثور عن أتباع. وثانيا، فإن جدّة هذهالظاهرة تكمن أيضا في حقيقة احتضانها بكيفية متحمسة حداثة هذه الوسائل التقنية، ولكن لكي تشكك في إيديولوجيةالحداثة. إن الآلاف من الشباب الأوروبيين، والعديد منهم لا تربطه صلة بالثقافة العربية الإسلامية، قرروا الانضمام إلىمقاولة العنف للدولة الإسلامية. لماذا يفعلون ذلك؟ إن سبب ذلك يجب البحث عنه ليس فقط في رفض لغة أو ثقافة ما، بل في رفض إيديولوجية المعنى وفي إرادة إعطاء معنى لحياتهمولحياة جماعتهم عبر استراتيجية جديدة وجذرية تماما، تتمثّل في التخلي عن كلّ ما هو حرية واختيار وتداول بما في ذلك الأفكار الحديثة والشاملة للمسار المهني والحب الرومانسي والديمقراطية. إن الشاب الأصولي اليوم يحلم بعالم خالٍ من الاختيار، حيث كل تعريف يمتح بثبات ودون اعتراض من القراءة الواحدة المقبولة للنص الواحد المقدس المقبول.
إن عدم فهم الأهمية الوجودية لهذا الحلم معناه إقبار كل مبادرة تهدف إلى الحدّ أو تقويض الدعاية الأصولية العنيفة.إن المعركة التي ينبغي توظيفها ضد هذا الصنف الإيديولوجيليست، في الواقع، عسكرية، بل، هي قبل كل شيء، سميائية. لذا ينبغي أن نفهم الأسباب الوجودية للأصولية العنيفةبإظهار جذورها في مدارات الحداثة، وربما عبر الإشارة إلى طريق جديد لأولئك الذين ينخرطون، اليوم، في مسار الظلامية والعنف.
يجب أن نظهر في نهاية المطاف، بأنه يمكننا العودة إلى الأصول الروحانية دون العثور، بالضرورة، على ما يدمّرالإنسان، بل العكس، نكشف عن كلام التحرر الذي وعدت به كل الأديان. إن البحث عن الإنسانية في أصول الدين: إن هذه بالذات هي الوصفة التي يلزم اتباعها لنزع فتيل أيّتأويل عنيف عن المقدس.
ماسيمو ليوني