آخر الإدراجات

مطاردة العلامات – بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية- الإنتاج والتلقي

مطاردة العلامات – بحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية- الإنتاج والتلقي

المقدمة

1. موضوع الكتاب

1.1 مطاردة العلامات

عنوان هذا الكتاب مستوحى من كتاب الناقد الأمريكي جوناثان كالر «The Pursuit of Signs »؛ وما حداني إلى اقتباسه الأهمية البالغة التي يكتسيها علم العلامات في مقاربة الوقائع الإنسانية وفي الطريقة التي يتم بها إدراك الكلمات والأشياء وتأويلها بوصفها علامات، ما يجعل محاولة فهم التجربة الإنسانيةواكتشاف الحياة اليومية والوجود بعامة أحد رهاناته الأساس. إنه فهم يستند إلى علامات ولا يمكن التفكير خارج مدار ما ترسمه حركية هذهالعلامات. يتعلق الأمر بعالم السميوزيس الذي ﻻ يقف فقط عند حدود إنتاج موضوعات يلقى بها للتداول واﻻستهلاك، بل يدرجها أيضا ضمن أنساق وتسنينات ثقافية وتاريخية تعطيها كافة تلويناتها وتحققاتها المستقلة، ثم لأن الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرس بورس (1839-1914) هو أحد رواد هذا العلم الذي نظر للعلامة من زاوية جذرية وشمولية يمكن عدّها الأساس النظري لأيّ اكتشاف ظاهراتي، ما يجعل من هذه العلامة وعلى نحو أمثل، حصيلة كل إدراك داخلي أو خارجي؛ بحيث لا وجود، حسب بورس، لفكر دون علامات. ولا فهم لعلامة ما دون تجربة سابقة للموضوع. كما أن الأساس الذي قام عليه فكر بورس للعلامة لم يتوقف عند منطق التوازي والتطابق القار بين التعبير والمحتوى، بل على الاستدلال والتأويل وعلى حركية السميوزيس. فالعلامة في الأصل لا تسير وفق نموذج (أ) º (ب)، بل وفق نموذج إن (أ) (إذن……). فهي ليست شيئا يحل محل شيء آخرaliquid stat pro aliquo، بل هي ما يجعلنا نتعرف على شيء إضافي، إنها دائما وافد جديد. فالشرط في العلامة إذن ليس شرط الاستبدال بل وجوب تأويل محتمل. وكما سيتضح فإن العلامة هي توجيه للتأويل وآلية تقود، انطلاقا من مثير أولي، إلى جميع الاستنتاجات التأويلية الأبعد شأوا. إننا ننطلق من العلامة لمطاردة السميوزيس في جملتها، ولبلوغ النقطة التي تولّد تناقضاتها الخاصة وإلاّ لما كانت تلك الآليات النصية المسماة “أدب” ممكنة.

تحاول الفكرة المحورية لهذا المشروع السميائي أن تثبت أن العالم (بالمعنى الكوني) لا يمكن أن يكون مقبولا لدينا إلاّ بوصفه تمثّلا على شكل أحداث وصور ووقائع نسميها علامات، وهي البانية له. وينظر لهذا التمثل عند بورس باعتباره شيئا بدهيا، وهذه الوظيفة هي التي تؤسس الفكر السميائي. فالعلامة ككيان منفتح على الغيرية محكوم عليها بالتمثيل لشيء آخر. لكن بمجرد ما أن نحاول البحث في طريقة العبور من المعرفة البسيطة لهذه الوظيفة (التمثل) ولضرورتها إلى تعريف أكثر إحكاما، كلما تلاشت ملامح تلك البداهة، لنجد ذواتنا أمام تشعبات ومسالك عصية على الضبط؛ كما لو أن الموضوع الممثل والحاضر في أذهاننا يوجّل باستمرار. ولكون العلامة أكثر من حامل بسيط لموضوعها، فلها مهمة يلزمها إتمامها؛ فهي ليست كيانا استبداليا على الطريقة التي ينوب فيها شيء عن شيء آخر، بل عليها أن تفعّل حركية هذا التمثيل. من هنا يأتي تعريف العلامة باعتبارها فعلا وتعريف السميائيات باعتبارها تحققا للوضع الفلسفي لبراغماتية بورس. 

إن العالم المرجعي لا يمكن إدراكه على نحو مباشر. إن معرفة وفهم وإدراك هذه العلامات التي تؤثث فضاءات هذا الكون، وكي تصير مألوفة لدينا، لا يمكن أن تتم إلا عبر فحصهاوتبريرها وتأويلها وفك سننها وطريقة اشتغالهاانطلاقا من علامات أخرى. هذا التسلسل الضروري للعلامات، وهذه المطاردة هي ما يطلق عليه بورس سيرورة السميوزيس الحركية في أبعادها الافتراضية والتوقعية. وبهذا المعنى فإن نظرية العلامات هي نظرية معرفية إدراكية.فالعالم ينمو داخل العلامة ولا تنمو العلامة داخل العالم إلا بشرط التوفيق بين الإحالة المجازية والإحالة المرجعية. ومعنى ذلك أن العلامة تتأسس بناء على نسق إحالات ذاتية متولّد بعضها من بعض، لا وفق سنن الإحالات ذاتها فحسب، بل بانغراس العلامة في السنن الثقافي ذاته. فلا هدف من تشكيل أشياء النص إلا سياقيا.      

إن اختيارنا هذا العنوان هو قبل كل شيءنتيجة تكاد تكون طبيعية لمشروع إعادة بناء تأريخي يخص مفهوم العلامة عند بورس في أصولها الفلسفية وامتداداتها داخل حقول معرفية كثيرة ومتنوعة. وما زادني اقتناعا بأهمية هذه الرحلة هو ثراء هذا المفهوم في تقاطعاته مع مجالات الطب والرياضيات والعلوم الطبيعية والبلاغة والمنطق والنقد والفنون البصرية، إلاّ أن أهم تقاطع هو ذاك الذي يشيده مع فلسفة اللغة والفلسفة تحديدا في إدراكها لأهمية النقاش حول النسق اللساني، بوصفه النسق الذي يوفر حصادا أوفر وأغنى على مستوى توليد الدلالاتوإمكانات التأويل، وحول أنساق أخرى من العلامات لفهم قضايا أخرى عديدة.  

إن العديد من تجارب حياتنا اليومية لا تسترعي انتباهنا لكي نفكر فيها على نحو جدي،إنها تمر أمام أعيننا دون أن تحدث أو تخلف أثرا، لكن عندما تستعصي هذه التجارب على أفهامنا وتصبح ملغزة، فإن الذهن ينطلق في البحث عن إجابات وهذا يتطلب بالتأكيد مجهودا؛وسيكون هذا المجهود، لا محالة، هو موضوع محاولتنا هذه.

محاولتي هذه ستنصب بشكل محدد على مجهود التأويل في السميائيات قبل وأثناء وبعد ممارسته على موضوع ثقافي ما. والتركيز في هذا المجهود سوف ينصبّ على مفهوم “الوسيط” في بعده الثقافي والرمزي، وسنسلك في هذا الاتجاه طريقة في البحث قد تكشف لنا عن وجوه من الالتقاء بين علوم اللسان وعلوم الإنسان في الآن معا.

ولما كان الوسيط شديد المساس بالموضوع الثقافي والرمزي في أوجهه المختلفة ومستوياته المتعددة، فإن ذلك لم يكن ليمنع السميائيات، شأنها في ذلك شأن باقي المناهج التأويلية من أن تكون علما وتأملا معرفيا تستنير به كل الخطابات المعنية بدراسة الأنساق الثقافية الدالة؛ كالفن والشعر والسرد والإشهار والدين.. وبالتالي فإن الأنساق الثقافية ليست إلا أنساقا وسيطية. 

نسعى في هذا الكتاب إذن، الذي تخيرنا له عنوانا مطاردة العلامات – بحث فيسميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية- الإنتاج والتلقي إلى ضبط جملة من المفاهيم والمصطلحات البانية لهذا المشروع وبيان القصد من حدّها وأدوارها النظرية؛ ومن شأن هذه وتلك أن تمكن الباحث من آليات إجرائية تيسّر له ولوج مسالك ومضارب تجربة التأويل في السميائيات ليسائل ويرتهن بعضا مما مضى أو مما يحيط به، في الآن والهنا، أو مما تستشرفه آفاقه من ظواهر وأنساق ثقافية.ويحاول أيضا، اﻹجابة عن بعض اﻹشكاﻻت لكل المهتمين بقضايا تحليل الخطاب؛ يتعلق اﻷمر بمفهوم السميائيات التأويلية، بوصفها استراتيجية قرائية تمتلك تسنينا فلسفيا يرى في النص مستودعا من اﻻحتماﻻت الدﻻلية التي تتوقف ضرورة عند نقطة دﻻلية محددة يفرضها بناء التأويل نفسه، ما يجعل هذا اﻷخير محكوما بمرجعياته وحدوده وقوانينه الذاتية.  

فإذا كان فعل العلامة منظورا إليه في ذاته، لا يمكن أن يُفهم إلاّ بوصفه مطاردة أو امتدادا لامتناهيا من علامة لأخرى دون أن يتوقّف ذلك عند حدّ بعينه، فإن وظيفة التأويل في بعدهاالتداولي تتبدّى في التجميد المؤقّت لهذه الحركية. وهذا لا يمكن أن يكون طبعا إلاّ لأسباب تحافظ للتأويل على نزعته التداولية، كما لا يمكنه أن يكون كذلك إلاّ بواسطة قوى خارج – سميائية أو سابقة على ما هو سميائي؛ لأن الطبيعة التداولية للفعل التأويلي تجعله ينتج مجموعة من التسنينات والمعايير التي تُدرجه ضمن مسيرات محددة لا أقلّ ولا أكثر. إن هذه التسنينات وهذه المعايير، وبصورة أشمل، هذه العادات تمتح وتغرف معلوماتها من مصادر متنوعة ومتعددة؛تعود إلى التاريخ وإلى نص الثقافة. 

ويسعى فعل القراءة داخل السميائيات التأويلية إلى إبراز كيف تشتغل وتتعاضد مختلف مستويات العلامة (السميوزيس) لتنتج معنى ما(الإنتاج)، يكون معادﻻ للتعدد واﻻنفتاح على عوالم دﻻلية ممكنة؛ هذا اﻻنفتاح ﻻ يعادل اللعب واﻻستعمال الحر للنص، كما لا تسنده حدوس وتخمينات، ولكنه يمثل استراتيجية تأويلية مشروطة بوسائط التعاضد النصي والتأويلي المتمثلة في اختيارات الموسوعة والبناء الثقافي للمؤول (ضرورة وجود تصور مسبق عن المعنى) ثم الفرضيات التداولية المتعلقة بالمدارات السياقيةوالموضعية (الطوبيك) والمتصلة بمبادرة القارئ والذي يصوغها بطريقة بسيطة على شكل أسئلة يفترضها النص تلميحا أو تلويحا، والعوالم الممكنة بوصفها بناء ثقافيا بانيا لكل توقعات وسيناريوهات هذا القارئ (التلقي).

وبالمناسبة، أود أن أقترح بأن كتابات السميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس في هذا المضمار، تشتمل على فرضيات قرائية غاية في الدقة والتداول. فرغم الصعوبات والتأويلات التي أعطيت لكتاباته، إﻻ أن مقارباته النظرية والتحليلية تعطينا انطباعا راسخا بأن السميوزيس ليست مفهوما لسانيا فحسب، بل سيرورة تبحث في اﻵليات والشروط المنطقيةوالمعرفية التي تجعل فهم التجربة الإنسانية أمرا مرتبطا بمستويات إدراك، سواء كان إدراكا للذات أو إدراكا للعالم.  2. منطلقات البحث

لقد كان تفكيرنا في الموضوع مسبوقا بجهود نظرية وتطبيقية أدلى بها مفكرون وفلاسفة غربيون وباحثون ونقاد عرب في مصنفاتهم التي استأنسنا بكثير منها في تعزيز المداخل التي نرسمها استشكالا لموضوعنا واستدلالا على بعض نتائجه. ولم يغْرِنا على المستوى المنهجي أي نوع من أنواع الإسقاط بدافع تعقب الجدة والتماس أسباب التحديث. لذلك سعينا، تطبيقيا، إلى استقراء الخطابات بلغتها الخاصة وفي سياقها الداخلي والخارجي التابعين للمجال التداولي الذي وردت فيه. مركزين داخل النظرية على مفهومين مركزين في سميائيات بورس هما: الإنتاج والتلقي؛ ذلك أن إنتاج عمل فني ما يقتضي منا استحضار سيرورة افتراضيةمنطقية موازية لتلك التي يمكن أن يكون عليها البحث العلمي، تساهم في تطوير الكونوتنميته. ذلك أن هدف إنتاج عمل فني ما، هو القبض على الأولانية وجعلها محققة وواضحة ومُدرَكة. فعندما يفرغ الفنان والمبدع من عمله، ينفتح هذا الأخير على مستويات تلقّ متعدد وتأويلات منفتحة ما يجعل تداوله وإمكانية استمراره أمرا ممكنا. وإن تأويل عمل فني ما يضع المتلقي في سكّة التفكير الأيقوني. وباعتبار العمل الفني علامة يلزم تأويلها؛ فإن  هذه التأويلات تفرض معرفة فكرية ودلالية. لأن تلقي هذا العمل ليس إحساسا أو شعورا، بل هو إدراك وفكر، فالأمر، هنا، لا يتعلق باستدلال أو برهنة، بل بنوع من التفكير المرتبط بمستوىمعين داخل الأولانية في فلسفة بورس.  3. معمار الكتاب

قسمنا الكتاب إلى بابين: خصصنا البابالأول لعرض أهمّ أسس النظرية السميائية خاصة في أبعادها التأويلية عند بورس سواء من حيث مفهومها أو من حيث امتداداتها الفلسفية واللسانية والنقدية. وقد جعلنا من هذا الباب فصلا واحدا متضمنا لمباحث حاولت جميعها الإجابة عن سؤال الكيفية التي قاربت بها نظرية بورس السميائية عمليات إنتاج المعنى، بدءا بتمثيله وانتهاء بتأويله. وقد أوضحنا أن النظرية السميائية، لا تنفصل عن المقولات الفلسفية الظاهراتية باعتبار إحالتها على الحدود البانية لنظرية العلامة، وباعتبار هذه الأخيرة الوجه الآخر لعمليات الإدراك، مما يجعل منها استعادة للمقولات الفلسفية الإدراكية الظاهراتية (الفانيروسكوبيا). ولا تنفصل النظرية السميائية عند بورس كذلك عن المنطق باستدعائه لمجموعة من العمليات الاستدلالية. وهي في الأخير نظرية في التأويل(السميوزيس التأويلية). وباعتبارها كذلك فستقوم على دراسة التمفصلات والتشعبات الممكنة للمعنى إبّان رصده، ثم الكشف عن حالات استعصائه وصيغ تصريفه ثم طبيعته التعددية والإيديولوجية. فالسيرورة التأويلية في أبعادها التركيبية والدلالية والتداولية إنتاج، والإنتاج يقتضي الخروج من العلامة في أبعادها الموازية والمطابقة إلى علامات أكثر تطورا؛ أي الخروج من التعيين إلى التأويل، باعتبار هذا الأخير سلسلة من الإحالات البانية لأنساق تدليلية سياقية إن لم تكن مشروعة، فهي على الأقل قابلة لإقرار بها شرعا. وفي هذا الاتجاه حاولنا إبراز بعض التصورات المحايثة أو المفارقة التي تتقاطع مع مفهوم السميوزيس عند بورس من قبيل الوظيفة السميائية (لوي هيلمسليف)والحوارية (ميخائيل باختين) والتناص (جوليا كريستيفا) والدائرة التأويلية (هانز جورج غادامير) والسميوزيس التفكيكية (جاك دريدا). وقد قادتنا مفاهيم هذه التصورات إلى وضع أسئلة تخص حجم التأويل وكثافته وأبعاده ومظاهره، من قبيل اللامتناهي والمتعدد والنمو اللولبي للعلامة وحركية الفعل التدليلي والمتاهة والتشتيت وما لا يمكن تحديده والعلامة تحت المحو والمسافة والأفق وتجاوز الاغترابات الجمالية والتاريخية… وهي مفاهيم تجعلنا تارة نذهب بالتأويل إلى حدوده القصوى دون كابح يعقلن هذه الممارسة، وتجعلنا تارة أخرى نحيط التأويل بإرغامات وانتقاءات سياقية تكون أمارة على أننا “أدركنا” ما يودّ النص أو الواقعة قوله. وفي هذه الحالة كما في تلك، فما يظلّ ثابتا هو ضرورة التأويل وأهميته.

أما الباب الثاني فقد حاولنا من خلاله إظهار المردودية التحليلية للسميائيات وللطريقة التي تنتج بها العديد من الأنساق معانيها، إدراكا منّا أن السميائيات التطبيقية على حد قول إيكو منطقة ذات حدود غير دقيقة، لهذا فضلنا أن نتحدث عن ممارسة تأويلية ووصفية وهو ما جعلنا نُبعد مسألة العلمية في بعدها المنهجي الصارم، وكان الأساس هو التحدث عن مسألة الإقناع والفائدة في فهم النص انطلاقا من ثقافة الموؤل، والقدرة كذلك على جعل الخطاب حول نص ما قابلا للتحكم فيه بصفة مشتركة. لذا اكتفينا في هذا الباب بتقديم تأمل بسيط حول بعض الأنساق الثقافية، وتحديدا ما يتعلق منها بالهويات البصرية (الإشهاريةوالتشكيلية) بوصفها إجراء معرفيا وإدراكيايتفاعل فيه الإيديولوجي والجمالي. كما أن التركيز على هذه الدعامات – ما يعود إلى الإشهار خصوصا- يبدو أمرا جوهريا لما لها من خصوصيات: 

– إيجابية تسهم فيه الهويات البصرية في إظهار ثقافات العالم وجعلها مدركة حتى في اختلافاتها وتبايناتها. 

 سلبية لأن الهويات البصرية، في كثير من الأحيان، تسهم في الوقت الحاضر في تقديم هذه الثقافات في أشكال مقنعة ومشوهة، ويعدّ هذا ضربة لطمس الثقافات ومواجهة بعضها بالآخر. كما أن البحث في الهويات البصرية،يحمل في اعتقادنا رؤية جديدة داخل نسقنا الثقافي العربي يقوم منطقها على ربط العمل الفني بما توصل إليه الدرس اللساني والسميائي الحديث. ولفهم هذه الرؤية وكذا الفروق الدقيقة المحيطة بها، يلزم التركيز على سياقها المعرفي والوظيفي. يتعلق الأمر بملمح المعنى الذي نودّ معالجته والنظر إليه باعتباره سيرورة تعاقبية يمكن النظر إليها لا بوصفها آليات الدخول والخروج البانية لنماذج تكنولوجيا المعلومات، ولكن بوصفها سيرورة سميوزيسية ديناميكية لإنتاج وتلقي المعنى.

وقد حاولنا الربط بين الهوية البصرية التشكيلية والهوية السردية من منطلق أن وراء كل صورة حكاية، والعلاقة بين السرد والحياة،مقتنعين بفكرة أن الحياة ليست إلا شكلا نفعيا بيولوجيا إذا خلت من التأويل الذي يلعب فيه السرد والخيال دور الوسيط  أثناء محاكاة فعل الإنسان ومعاناته التي تشكل لحمة الحياة، ومنه يتم سرد الحياة وكتابة الكينونة شعرا وبطريقة رمزية. لأن الخيال لا يكتمل إلا بالحياة، وأن الحياة لا تفهم إلا من خلال القصص والأشعار التي نرويها وننظمها عنها. 4. رهان الكتاب

لقد راهنا في اختيارنا البحث في سميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية في أبعادها النظرية والعملية على رهانين اثنين:- الرهان الأول معرفي أكاديمي يتبدى في تقديم معارف فلسفية زنقدية حديثة وتعميمها على أوسع القراء.- الرهان الثاني بيداعوجي يتجلى في محاولة استيعاب وتأصيل هذا العلم في تربتنا الثقافية العربية عملا على استنهاضها وذلك انطلاقا من إعادة النظر في مكوناتها وفي تشييدها على أسس معرفية متينة وجديدة.

إن أطروحتنا، في هذا الكتاب، لا تطال جوهر التأويل ولا ضرورته، بل تحاول تبريره نظريا، على الأقلّ، لأنها تسلّم بالدُّرجة وبالمستوى الذي يمكن لحركية الفعل التأويلي الوصول إليه. لذا فبناء السيرورة التأويلية، سيكون من هذه الزاوية، خاضعا لنسق التحولات والسناريوهات التوقعية والجولات الاستدلالية التي تتوقف ضرورة عند نقطة دلالية محددة يفرضها بناء التأويل ذاته، وهو بناء لا يمكن أن يكون في اعتقادنا إلاّ جزئيا. بمعنى آخر، إن كل إجراء تأويلي، يقتضي ضرورة وجود نظرية مسبقة للخطاب، أو على الأقل وجهة نظر في هوية النص المؤوّل، ودون ذلك سيكون صعبا على المؤوّل تبرير الأعمال التي يقوم بها قصد عرض المعنى واستخلاصه.

إن الرأي كان عندنا دائما، إن السميائيات التأويلية ليست بديلا للمقاربات التي سبقتها أو تلك التي ستليها، وليست سقفا لا أفق للاجتهاد في المنهج بعده، بل هي زاوية للنظر إلى الأنساق العلاماتية من شأنها أن توسع مدارك وآفاق البحث في الدلالات.

في الختام،لم أكن أسعى بهذا العمل إلى تقديم تأطير وافٍ لمجموع القضايا المتصلة بالتأويل في سميائيات شارل ساندرس بورس، بقدر ما كنت أهدف إلى تقديم مدخل بسيط لبعض أفكاره حين مقاربتها لقضايا المعنى وإشكالاته. والأسئلة التي تمّ تداولها على مدار هذا البحث لا تدّعي الإجابة عن كل الإشكالات العالقة بالحقل التأويلي، بقدر ما هي مراكمة لأسئلة أخرى تلزم بلورتها في أفق البحث عن شروط معرفية وبيداغوجية تسعى لتجذير هذا الفعل في ذاكرة الإنسان الثقافية، لأن التأويل هو أصل القراءات، وسبب رئيسي في إعطاء الواقعة كافة تحققاتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.