آخر الإدراجات

السيرورة التأويلية في هرمينوسيا هانز جورج غادامير وبول ريكور

السيرورة التأويلية في هرمينوسيا هانز جورج غادامير وبول ريكور

مقدمة

يكمن الهدف الرئيس لهذه العمل في محاولة تقديم بعض الجوانب الأساسية في المشروع الهرمينوسي لكلّ من “هانز جورج گادامير و“بول ريكور. ويجد هذه العمل تبريره بالنظر إلى كونه يمثّل من جهة ،خلاصة فلسفية ونقدية للقضايا والإشكالات الهرمينوسية السابقة التي تعود تحديدا إلى شلايرماخير وديلتايوبولتمان وهايدگر، ومن جهة أخرى، أرضية ومنطلقا لا في مجال التنظير الأدبي وحده وإنما في سائر العلوم الإنسانية.

إن هذه المشروع أضحى يحتلّ مكان الصدارة في المشهد الفكري والنقدي الأدبي المعاصر، ذلك لأنه جاء على حدّ تعبير أمبرتو إيكو ردّ فعل على :

«1 ـ تحجّر بعض الطرائق أو المناهج البنيوية التي تدّعي القدرة على تحليل العمل الفني أو النص في إطاره الموضوعيمن حيث هو موضوع لساني. 

ـ الصرامة الطبيعية لعلوم الدلالة الصورية التي كانت تهدف إلى إقصاء كل مقام أو ظرف للاستعمال أو السياق الذي قيلت فيه العلامات أو الملفوظات. لقد كان الأمر يتعلق بالنقاش بين الدلالة التي تتخذ شكل القاموس والدلالة التي تتخذ شكل الموسوعة.

3 ـ الاتجاه التجريبي لبعض المقاربات السوسيولوجية».

 وإذا كانت الهرمينوسيا عند گادامير وريكور  تشكل هذا الجواب الدال، من خلال تفعيلها للمعنى ورصدها للكينونة، بانقاذ النّص وكل الوقائع الإنسانية من الجفاف الدلالي، فإنه من الهام أن نعود إلى أصولها لنعيها الوعي الكافي، ثم ننتقل إلى كيفية اشتغال وتداول مفاهيمها، وعند ذلك نكون قد استجبنا،حسب گادامير نفسه، لمطلبين اثنين في الهرمينوسيا هما:• التوجه نحو الأشياء ذاتها.• إعادة بنائها،استنادا إلى استمرارية التقاليد الهرمينوسية التي تستحضر كلّ المعطيات السياقية البانية لحدود التأويل وضوابطه.

 إن النظريات في أصولها الفلسفية، هي المدخل الفعلي لاكتساب وعي راقٍ يجد تعبيره الأمثل في طريقة التعاطي مع المنتوج الإنساني بكل أشكاله. وبعيدا عن هذه الأصول يصعب علينا الحديث عن بناء تصورات نظرية مهما كان شكلها. 

من هنا،لا يمكن تناول مفهوم السيرورة التأويلية أوالتأويل بعيدا عن أسسه الفلسفية، لأنّ كلّ محاولة لممارسة هذا النشاط،كنسق تامّ له خصوصياته المميِّزة دون مراعاة السياق الفلسفي والأساس الإبستمولوجيالذي يسنده، يجعلنا عرضة للوقوع في مزالق الاختزال  والسطحية والانتقائية والفهم الناقص… وهذه أمور لا تتيح أمام الباحث الفرصة لا ستيعاب وتمثّل آليات اشتغال النظرية، ولا تمكّنه كذلك من إدراك خلفياتها الفلسفية الصريحة أو الضمنية، لأنّ كلّ نسق متفرّد يستند إلى مُسلّمات فلسفية، وهي مُسلّمات تختزن داخلها رؤية ما للعالم ولمكانة الإنسان داخله.

من هذا المنطلق ارتأينا أن نقدّم تصورا تحليليا وتركيبيا لقضايا التأويل المعاصر،من خلال ،گادامير وريكور، والإشكالات العالقة به، ساعين في ذلك إلى إبراز مجموعة من الملاحظات النقدية تخصّ أساسا تصور كل اتجاه لعملية إنتاج المعنى، خلال الكشف عن سيرورة تشكله وأشكال تجلّيه وتداوله.

ولا يخفى أن عملا من هذا القبيل يقتضي ليس فقط الحذر والحيطة، بل الدّقة اللاّزمة في تناوله خاصة وأن الهرمينوسيا اتجاهات متعددة تقدّم نفسها في الأول والأخير متباينة؛ واستعمالها يهمّ مستويات متعددة :

*مستوى ميتودولوجي يقدم نفسه باعتباره تقنية لتفسير النصوص الدينية ولكشف المعنى الباطن من خلال المعنى الظاهر.

* مستوى ابستمولوجي يجعل من الإشكال الهرمينوسي نمطا محددا للتفكير  يهدف إلى تأسيس المناهج التأويلية ومحاولة تبريرها،وتحديد المبادئ العامة للبحث في مجال تفكيك الرموز.

*مستوى فلسفي وأنطولوجي تغدو فيه الهرمينوسيامسألة شاملة يمكن من خلالها تحديد علاقة الكائن بكينونته.

وبما أن هدفنا يتبدّى في معرفة تصور كل اتجاه للتأويل ولآليات اشتغال هذا المفهوم داخل النص، ودوره في بناء محافل نصّية وتشييد أنساق معرفيةوثقافية، تتخطى البعد النفعي للفكر والحياة وتتجاوز كل دوغمائية تتحرك في فلك المعنى الواحد وعنف القراءة المغلقة،وتدعو إلى تشييد وعي تأويلي قادر على الفهم والحوار، مثلما نتحدث عن وعي سياسي وتاريخي…  فقد قسّمنا هذا العمل إلى ثلاثة أبواب ومقدمة وخاتمة.

تناولنا في الباب الأول، تعريف التأويل وضرورته ومستوياته المتعددة واللامتناهية، وحدوده وتحولاته،ثم بيّنا الفرق بين تأويل النص واستعماله. وأبرزنا أن التأويل، نشاط معرفي، له طابعه الخاص من حيث أصوله وامتداداته، ومن حيث مردوديته وآليات اشتغاله. وأهمية التأويل، تكمن فيقدرته على خلق علاقات وآفاق جديدة غير بادية من خلال التجلي الخطي والمباشر للنص. 

ثم تناولنا بعد ذلك،مفهوم الهرمينوسيا في أصولها وتحولاتها، وكيف تخلّصت من تأويل النصوص الدينية لكي تشمل كل النصوص اللغوية وغير اللغوية، ولن يظلّ موضوع التأويل مقتصرا على الوحي والخوراق، بل سيعانق الممارسة الإنسانية في مظاهرها الفلسفية المتنوعة من خلال ربط التأويل بالفهم والتفسير والنص والقارئ والسياق والمسافة… وقد تناولنا هذا، بنوع من السطحية، مع شلايرماخير وديلتاي وهايدغر .

أما الباب الثاني بفصوله الثلاثة فقد خصصناه لمفهوم التأويل في هرمينوسيا گادامير.

وقد أبرزنا فيه أن التأويل مرتبط بإشكالية الفهم، وهي الإشكالية التي حظيت باهتمام كبير في مجال قراءة النص. ولمّا كان الفهم هو بؤرة التأويل، فقد جعل منه گادامير خاصية أساسية لصيقة بالوجود الإنساني وملازمة له، وهو موقف ينبغي أن يُؤسَّس داخل الفن والتاريخ واللغة.فالحقيقة الكاملة للفن تتبدّى بوصفها لعبة تندمج فيها الذات المتلقية والعمل الفني معاً. إذ لا سبيل إلى التفكير في العمل الفني بدون المتلقي، والذات المتلقية لا تبقى إزاء العمل الفني في استقلال منفصل. وتكون اللغة هنا سيروة توسطية إلزامية للاندماج والفهم. وگادامير نفسه يولّي اللغة الأهمية الخاصة، فهو يقول:«الوجود الذي يمكن أن يفهم هو اللغة». ومن هنا يتضح أن الأسس الجمالية والدلالية لهرمينوسيا گادامير تقوم على إيجاد علاقة بين الذات المتلقية والفهم واللغة والحقيقة وصولاً إلى بناء تصور تأويلي منسجم يتجسد من خلال التاريخ.

وفي الفن والتاريخ واللغة، تجد الأحكام المسبقة مكانها، فهي تشكل عناصر أساسية في الفهم. وهي عناصر مرهونة ومتوقفة في طبيعتها على أفقنا وسياقنا التاريخي،لأنها معطاة ومحددة بهذا السياق. 

وقدّمنا في الباب الثالث مشروع ريكور الهرمينوسي،منطلقاته(رمزية الشّر)،وأهمّ المفاهيم البانية له مثل: الرمز والتأويل والفهم والتفسير والنص والفعل والزمن والسرد والهوية والإيديولوجيا واليوطوبيا… وهي مفاهيم ذات صلة وثيقة بالقضايا الخاصة بطبيعة المعنى وشروط إنتاجه والسُّبل المؤدّية إلى الكشف عنه وتحديد مستوياته.  

تفترض هذه المفاهيم جدلية مزدوجة لنحت وشقّ طريق جديد نحو فلسفة الفعل، وذلك بتحوّل ريكور من هرمينوسيا النص إلى هرمينوسيا الفعل. فالتأويل ليس نشاطا ينصبّ حصريا على النص،بل هو تأويل للأفعال والممارسات. وبمعنى آخر يمكن للفعل أن يفهم بوصفه نصّا وبالمقابل يمكن للنص أن يفهم بوصفه فعلا وممارسة. والنص والفعل هما موضوعا التأويل، وطريقة تأويلهما تستحضر كل أشكال التفاعل القائم بين التفسير والفهم.

ونحن حينما نتحدث عن التأويل، فإن ريكور سوف يعمد إلى إقامة تصوراته على أُسس هرمينوسية لاستخلاص أنطولوجيا الفهم. وقد اختار ريكور لتأسيس هذا الفهم الطريق الأطول القائم على اكتشاف المستويات الدلالية والرمزية للغة.

بناء على هذا الفهم للغة، لم يعد العالم يعبّر عن المحيط الموضوعي الذّي يوجد بصفة مستقلّة عن الذّات و عن الإنسان، و إنّما أصبح يشير الى عالم من التّصوّرات و التّمثّلات الثقافية المنظّمة لمحيط الإنسان. حينئذ أصبح مشروعا قولنا إنّ الإنسان لا يتحرّك وسط أشياء وموجودات، بل بين رموز و دلالات و تمثّلات، كان هو الأصل في وضعها. بحيث يقتضي التّعرّف الى خصوصيّة العلاقة التّي يقيمها الإنسان مع العالم، أن نحدّد الوسائط التّي بها يتمكّن الانسان من اكساب دلالة و معنى ما للوجود. و ليست هذه الوسائط شيئا آخر غير ، اللّغة في أبعادها الرمزية …هذه اللغة تزيح الكوجيطو التأملي القائم على الوعي المباشر عن مركزه وتدفع ريكور إلى طرح مسألة إدماج هرمينوسيا الرموزفي الخطاب الفلسفي. 

يظهر من خلال هذا أن الهرمينوسيا عند ريكور، هي بناء رمزيء للذات والوجود، وهو بناء غايته الإمساك بالمرجع الخارجي انطلاقا من تمفصلات اللغةوالتقطيع المفهومي الخاضع لما يأتي به التمثيل الرمزي. هذا التمثيل سوف يشكّل وسيطا من خلاله تستطيع الذات تحويل أحكام وحقائق مجردة، إلى كيانات مجسدة أو سلوكات محسوسة. وهذا ما لمسناه من خلال تصوره لمفهومي الزمن والسرد،باعتبار هذا الأخير ـ بما هو صياغة للفعل الإنساني ضمن اللغة ـ يشكل الأساس في تشكل المعنى، بل هو شكل من أشكال وجوده وشكل في تجليه وفي تلقيه. 

إن هذه الهرمينوسيا تتخذ بعدا نقديا، وتسعى إلى فضح الوهم وتفكيك سُنن الوعي الزائف التي كشف عنها ماركس وفرويد ونيتشه، سادة الشكّ الثلاث بلغة ريكور .  

أما خاتمة هذا العمل فكانت عبارة عن تركيب لأبرز الخلاصات التي قادني إليها البحث في السيرورة التأويلية، حاولت عبرها جمع شتات ما قيل،وحاولت في الوقت نفسه استدراك ما لم يُقل،  فكانت بدورها محورا مُقارِنا بين گادامير و ريكور وهل يملكان تصور مشترك للهرمينوسيا ؟

إن التأويل،سواء مع گادامير أو ريكور،هو إنتاج لمعرفة جديدة وخلقلسلسلة من الإحالات التدليلية البانية لسياقاتها الخاصة،إنه في كل لحظة وافد جديد. لهذا فبناء السيرورة التأويلية،سيكون من هذه الزاوية خاضعا لنسق التحولات والسناريوهات التوقعية والجولات الاستدلالية التي تتوقف ضرورة عند نقطة دلالية محددة يفرضها بناء التأويل ذاته،وهو بناء لا يمكن أن يكون ، في اعتقادنا ،إلاّ جزئيا. بمعنى آخر،إن كل إجراء تأويلي، يقتضي ضرورة وجود نظرية مسبقة للخطاب، أو على الأقل وجهة نظر في هوية النص المؤوّل ، ودون ذلك سيكون صعبا على المؤوّل تبرير الأعمال التي يقوم بها قصد عرض المعنى واستخلاصه.

في الختام،لم أكن أسعى بهذا العمل إلى تقديم تأطير وافٍ لمجموع القضايا المتصلة بالهرمينوسيا،بقدر ما كنت أهدف إلى تقديم مدخل بسيط لبعض اتجاهاتها حين مقاربتها لقضايا المعنى وإشكالاته. والأسئلة التي تمّ تداولها على مدار هذا البحث لا تدّعي الإجابة عن كل الإشكالات العالقة بالحقل التأويلي، بقدر ما هي مراكمة لأسئلة أخرى تلزم بلورتها في أفق البحث عن شروط معرفية وبيداغوجية تسعى لتجذير هذا الفعل في ذاكرة الإنسان الثقافية، لأن التأويل هو أصل القراءات، وسبب رئيسي في إعطاء الواقعة كافة تحققاتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.