المقدمة
نسعى في هذا الكتاب الذي تخيرنا له عنوانا “السميائيات التأويلية – امتلاك الموضوع الثقافي-” إلى ضبط جملة من المفاهيم والمصطلحات البانية لهذا المشروع وبيان القصد من حدّها وأدوارها النظرية. ومن شأن هذه وتلك أن تمكن الباحث من آليات إجرائية تيسر له ولوج مسالك ومضارب تجربة التأويل في السميائيات ليسائل ويرتهن بعضا مما مضى، أو مما يحيط به، في الآن والهنا، من ظواهر وأنساق ثقافية. ذلك أن العديد من تجارب حياتنا اليومية لا تسترعي انتباهنا لكي نفكر فيها على نحو جدي. إنها تمر أمام أعيننا دون أن تحدث أو تخلف أثرا. لكن عندما تستعصي هذه التجارب على أفهامنا وتصبح ملغزة، فإن الذهن ينطلق في البحث عن إجابات وهذا يتطلب بالتأكيد مجهودا. وسيكون هذا المجهود، لا محالة، هو موضوع محاولتنا هذه.
محاولتي هذه ستنصب بشكل محدد على مجهود التأويل في السميائيات أثناء وبعد ممارسته على موضوع ثقافي ما. والتركيز في هذا المجهود سوف ينصبّ على مفهوم “الوسيط” في بعده الثقافي والرمزي وسنسلك في هذا الاتجاه طريقة في البحث قد تكشف لنا عن وجوه من الالتقاء بين علوم اللسان وعلوم الإنسان في الآن معا.
ويحاول هذا الكتاب أيضا، اﻹجابة عن بعض اﻹشكاﻻت لكل المهتمين بقضايا تحليل الخطاب؛ يتعلق اﻷمر بمفهوم السميائيات التأويلية، بوصفها استراتيجية قرائية تمتلك تسنينا فلسفيا يرى في النص مستودعا من اﻻحتماﻻت الدﻻلية التي تتوقف ضرورة عند نقطة دﻻلية محددة يفرضها بناء التأويل نفسه، ما يجعل هذا اﻷخير محكوما بمرجعياته وحدوده وقوانينه الذاتية.
ويسعى فعل القراءة داخل السميائيات التأويلية إلى إبراز كيف تشتغل وتتعاضد مختلف مستويات العلامة (السميوزيس) لتنتج في النهاية معنى ما، يكون معادﻻ للتعدد واﻻنفتاح على عوالم دﻻلية ممكنة؛ هذا اﻻنفتاح ﻻ يعادل اللعب واﻻستعمال الحر للنص، ولكنه يمثل استراتيجية تأويلية مشروطة بوسائط التعاضد النصي والتأويلي المتمثلة في اختيارات الموسوعة والبناء الثقافي للمؤول (ضرورة وجود تصور مسبق عن المعنى) ثم الفرضيات التداولية (الطوبيك) المتصلة بمبادرة القارئ والذي يصوغها بطريقة بسيطة على شكل أسئلة يفترضها النص تلميحا أو تلويحا، والعوالم الممكنة بوصفها بناء ثقافيا بانيا لكل توقعات وسيناريوهات هذا القارئ.
وبالمناسبة، أود أن أقترح بأن كتابات السميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس في هذاالمضمار، تشتمل على فرضيات قرائية غاية فيالدقة والتداول. فرغم الصعوبات والتأويلات التيأعطيت لكتاباته، إﻻ أن مقارباته التحليلية تعطيناانطباعا راسخا بأن السميوزيس ليس مفهومالسانيا فحسب، بل سيرورة تبحث في اﻵلياتوالشروط المنطقية التي تجعل فهم التجربة الإنسانية واكتشاف الحياة اليومية والوجود،بعامة، أمرا ممكنا. إنه فهم يستند إلى علامات، ولا يمكن التفكير خارج مدار ما ترسمه العلامات. يتعلق الأمر بعالم السميوزيس الذي ﻻيقف فقط عند حدود إنتاج موضوعات يلقى بهاللتداول واﻻستهلاك، بل يدرجها أيضا ضمنأنساق ثقافية وتاريخية وقيمية تعطيها كافةتلويناتها وتحققاتها المستقلة.
وتبعا لهذا فقد قسمنا الكتاب إلى بابين؛ خصصنا الباب الأول لعرض أهمّ ملامح النظرية السميائية، خاصة في أبعادها التأويلية، عند بورس والفروق الدقيقة بين مفهومي السميوزيس اللامتناهية والسميوزيس التفكيكية. وقد قسّمنا هذا الباب إلى فصلين؛ حاولنا في الفصل الأولالإجابة عن سؤال الكيفية التي قاربت بها نظرية بورس السميائية عمليات إنتاج المعنى، بدءا بتمثيله وانتهاء بتأويله. ثم الإرغامات الخطابية التي تمنح الوحدات الدلالية هوية محددة تستقرّ عليها التأويلات. وقد أوضحنا أن النظرية السميائية، لا تنفصل عن المقولات الظاهراتية باعتبار إحالتها على الحدود البانية لنظرية العلامة، وباعتبار هذه الأخيرة الوجه الآخر لعمليات الإدراك، مما يجعل منها استعادة للمقولات الفلسفية الإدراكية الظاهراتية (الفانيروسكوبيا). ولا تنفصل النظرية السميائية عند بورس كذلك عن المنطق باستدعائه لمجموعة من العمليات الاستدلالية. وهي في الأخير نظرية في التأويل(السميوزيس التأويلية). وباعتبارها كذلك فستقوم على دراسة التمفصلات الممكنة للمعنى إبّان رصده، ثم الكشف عن حالات استعصائه. فالسيرورة التأويلية في أبعادها التركيبية والدلالية والتداولية إنتاج، والإنتاج يقتضي الخروج من التعيين إلى التأويل، باعتبارهذا الأخير سلسلة من الإحالات البانية لأنساق تدليلية سياقية إن لم تكن مشروعة، فهي على الأقل قابلة لإقرار بها شرعا.
وفي مقابل السميوزيس التأويلية، بكل متعلقاتها النظرية كما هي عند بورس، تناولنا، في الفصل الثاني، بالدرس السميوزيس التفكيكية (نسبة للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا). ويشيّد التأويلالتفكيكي إجراءاته التأويلية انطلاقا من نحته لمجموعة من المقولات الفلسفية المنفلتة، مثل:الاختلاف والتفكيك والتشتيت والعلامة تحت المحو وما لا يمكن حسمه أو تحديده …
تفكّك هذه المقولات كلّ ثبات داخل بنية التقابلات الثنائية، ساعية بذلك إلى قلب التصور الذي أرست دعائمه الفلسفة الغربية، وتدعوبالمقابل، إلى قراءة مُضاعَفة ترصد فعل الاختلاف في النص. وهذه المفاهيم تطمح، في عرف دريدا، إلى تحدّي ميتافيزيقا الحضور الوثيقة الصّلة بمفهوم التأويل القائم على وجود مدلول نهائي. كما أنها تسعى إلى تحميل وشحن اللغة بمستويات دلالية تفوق تلك التي تمتلكها في أبعادها القاموسية.
وتمحورت مباحث هذا الفصل جميعها حول الاستراتيجية العامة للتأويل التفكيكي، وهي استراتيجية تأويلية لامتناهية يمكن اختزال أهم محتوياتها في نقطتين أساسيتين:
* النقطة الأولى، تتمثل في إقصاء هذه الاستراتيجية لكل ما يتعلق بمفهوم المركز والبنية والهوية الكاشفة للمعنى داخل النص. بمعنى آخر، لا وجود، من جهة نظر دريدا، للمركز، ولا وجود لأصل أو نهاية، ولا مكان خارج النص يمكننا انطلاقا منه جعل دلالة ما ترسو وتستقر في زاوية بعينها. وأمام غياب مركز ثابت بإمكانه إعطاء المعنى كافة تحققاته داخل النص، فإن البديل في الاستراتيجية التفكيكية هو اللعب الحر،وإنتاج قراءة مضاعفة لا تهتم سوى باللذة . ،« ومن حقّ العلامة أن تحدد قراءتها حتى ولو ضاعت اللحظة التي أنتجها إلى الأبد أو جهلت ما يودّ كاتبها قوله. فالعلامة تسلّم أمرها لمتاهتها الأصلية». وهذا التيار يعتبِر الوجود تأويلا، حيث «يبدو العالم لا نهائيا ولا يمكن أن نرفض إمكان انفتاحه على التأويلات اللامتناهية ».
* أما النقطة الثانية، فتشير إلى أن تأويل أيّ نسق دالّ من العلامات يصبح بالضرورة هو الآخر نسقا جديدا من العلامات ينتظر التأويل بدوره. وفي هذه الحالة، فإن التأويلات تنتشر بطريقة سرطانية دون كابح،ودون إيجاد علاقة رابطة بين التأويلات اللاحقة بالتأويلات السابقة. وهو مايجعلنا أمام تيه فعلي نستشعر معه غياب كل قصدية تنحو بالعلامات نحو هدف دلالي محدد أو غائية ما. إن القارئ من هذا المنظور يتناول النص على طريقته مبعدا نسق موجّهاته.
أما الباب الثاني فقد اكتفينا فيه بتقديم تأمل بسيط حول بعض الأنساق الثقافية، وتحديدا ما يتعلق منها بالهويات البصرية (الإشهاريةوالتشكيلية) بوصفها إجراء معرفيا وإدراكيايتفاعل فيه الإيديولوجي والجمالي. كما أن التركيز على هذه الدعامات – ما يعود إلى الإشهار خصوصا- يعود لما لها من خصوصيات:
– إيجابية تسهم فيه الهويات البصرية في إظهار ثقافات العالم وجعلها مدركة حتى في اختلافاتها وتبايناتها.
– سلبية لأن الهويات البصرية، في كثير من الأحيان، تسهم في الوقت الحاضر في تقديم هذه الثقافات في أشكال مقنعة ومشوهة، ويعدّ هذا ضربة لطمس الثقافات ومواجهة بعضها بالآخر. كما أن البحث في الهويات البصرية،يحمل في اعتقادنا رؤية جديدة داخل نسقنا الثقافي يقوم منطقها على ربط العمل الفني بما توصل إليه الدرس اللساني والسميائي الحديث. ولفهم هذه الرؤية وكذا الفروق الدقيقة المحيطة بها، يلزم التركيز على سياقها المعرفي والوظيفي. يتعلق الأمر بملمح المعنى الذي نودّ معالجته والنظر إليه باعتباره سيرورة تعاقبية يمكن النظر إليها لا بوصفها آليات الدخول والخروج البانية لنماذج تكنولوجيا المعلومات، ولكن بوصفها سيرورة سميوزيسية ديناميكية لإنتاج وتلقي المعنى.
وقد حاولنا الربط بين الهوية البصرية التشكيلية والهوية السردية من منطلق أن وراء كل صورة حكاية، والعلاقة بين السرد والحياة، مقتنعينبفكرة أن الحياة ليست إلا شكلا نفعيا بيولوجياإذا خلت من التأويل الذي يلعب فيه السرد والخيال دور الوسيط أثناء محاكاة فعل الإنسان ومعاناته التي تشكل لحمة الحياة، ومنه يتم سرد الحياة وكتابة الكينونة شعرا وبطريقة رمزية. لأن الخيال لا يكتمل إلا بالحياة، وأن الحياة لا تفهم إلا من خلال القصص والأشعار التي نرويها وننظمها عنها.
والرأي عندنا أن السميائيات التأويلية ليست بديلا للمقاربات التي سبقتها أو تلك التي ستليها وليست سقفا لا أفق للاجتهاد في المنهج بعدها، بل هي زاوية من النظر إلى الأنساق العلامية مضافة من شأنها أن توسع مدارك وآفاق البحث في الدلالات