- تحدّيات السميائيات المجتمعية.[1]
تواجه إنسان العصر الحالي العديد من التحديات والتحولات المتنوعة. ولم يعد أمام المجتمع سوى أن ينظر في أساس التقدم والتطور، لاستشراف المستقبل بما يحمله من تقدم حديث وتطور مفاجئ. وإن التحديات التي تواجه الإنسانية في عصرنا الراهن تسبّب لإنسان هذا العصر القلق وتثير في نفسيته الخوف وتجعله كثير التفكير بما يخفيه له المستقبل.
تشكل هذه التحولات التي تتعرض لها المجتمعات البشرية في واقعها الإنساني الراهن، تحديات ذات طابع عالمي تخترق الحدود بين الدول وتؤثر على الهويات الوطنية. وتعدّ الثورة العلمية والتكنولوجية من أهم الظواهر التي تميز العصر الحالي. وتعود أهميتها إلى التأثير العميق الذي تحدثه في كافة جوانب الحياة وإلى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تثيرها. ولقد نجم عن هذا الانفجار المعرفي والتكنولوجي العديد من التغيّرات في كافة مناحي الحياة، إذ زادت حدّة التغيير الاجتماعي وبخاصة في القيم والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية. يقول السميائي جاك فونتاني: «إن معظمنا على قناعة تامة بأن مستقبلنا يتوقّف، في كلّ الأحوال، على التكنولوجيا، والرقمية، والإنسان الآلي وعلوم النّانو وبيولوجيا الأنظمة وعلى ابتكار أشكال جديدة للطاقة. ومع ذلك ترتكز كل هذه الآفاق التكنولوجية على اختيارات وقرارات، لا خيار لنا أمامها ولا مفرّ لنا منها: من ذا الذي يستطيع أن يشكك في معنى هذه الخيارات التكنولوجية ومعنى خياراتنا المجتمعية وبشكل أعمّ خياراتنا الحضارية؟ ما هي عواقب هذه التكنولوجيات على علاقتنا مع الطبيعة، وعلى تصوّرنا نفسه لهذه الطبيعة؟ »[2]
إن هذه الخيارات التكنولوجية تشكل جزءا لا يتجزأ من خياراتنا الثقافية. ومفهوم الثقافة الذي نريد أن نوضح فائدته ونقف على أهميته في هذا الكتاب، مفهوم سميائي في جوهره. والإنسان بما هو منتج لهذه التكنولوجيا يبقى معلّقا في شبكات من المعاني التي نسجها بنفسه، وأنا أعتقد أن الثقافة هي هذه الشبكات، وتحليل هذه الثقافة لا يعني كونها علمًا تجريبيًا يبحث عن قانون، ولكنه تحليل تأويلي يبحث عن دلالة ما. لذلك حاولت الأنثربولوجيا المعاصرة من خلال مفاهيمها وآليات اشتغالها وأساليبها المقارنة، أن تبرز لنا الآثار الكبيرة التي تلعبها التكنولوجيات في التأثير على علاقاتنا مع الظواهر الطبيعية وعلى الطريقة التي يتم بها تنظيم علاقاتنا وأنساقنا الاجتماعية. فالمبادئ الأساسية التي يستند إليها علماء الأنثربولوجيا في تصنيف المجتمعات البشرية تتميّز في الواقع بناء على الطريقة التي يضفي بها هؤلاء بعدا مجتمعيا على الطبيعة أو العكس. [3]
إن معظم القضايا الكبرى التي تصادفنا في عصرنا الحالي مثل: البيئة والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والسكان والصحة والولوج إلى الطاقة والمياه والمعلومات والتعليم والابتكار والأمن والإرهاب والتطرف… يقتضي استدعاء أو تدخّل العلوم الإنسانية أو الاجتماعية أو مساهمتهما المركزية. وإن علوم المعنى، بما فيها السميائيات، هي في الأول والأخير، معنية بتقديم إجابات عن هذه الخيارات والتحوّلات التي تنطوي عليها كل تلك القضايا والموضوعات الراهنة. إنها معنية:
- من جهة، بالتحولات التكنولوجية والاجتماعية وبالطريقة التي يتمّ بها اتخاذ القرارات من خلال التوقّعات والسياسات الاجتماعية والثقافية التي تحددها. كما أنها معنية:
- من جهة أخرى، بالعواقب الناجمة عن دمج هذه التحوّلات داخل مجتمعاتنا وعن توازن قيَمِنا وسلوكاتنا ومعتقداتنا ولا سيما في أبعادها وتحديداتها الاجتماعية. إن علوم المعنى سوف تلعب دورها كاملا إن هي ساءلت كل الأنظمة المتحكّمة في صنع القرارات، فضلا عن مساءلتها كذلك للآثار الاجتماعية والثقافية والأنثربولوجية الناجمة عن التغيّرات الآنية والمستقبلية.[4]
وتقترح السميائيات مجموعة من المفاهيم والطرائق للتحقّق أولاّ من الممارسات والنصوص والأشياء والتفاعلات الاجتماعية، وأساليب الحياة وأنماط الوجود الجماعي والمجتمعي. فهي قادرة على بناء المعنى، والاشتغال جنْباً إلى جنب مع جميع التخصصات الأخرى داخل مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تساهم في إرساء دعائم هذا المعنى، كل من زاوية نظرها الخاصة حيث: التاريخ والفلسفة وعلم النفس والأنثربولوجيا وعلم الآثار والاقتصاد والتحليل النفسي وعلم الاجتماع. وبوسع السميائيات الذهاب بعيدا في التحليل، شريطة أن تكون قادرة على اختيار المستوى أو المستويات المحايثة والملائمة.[5] يتعلّق الأمر بمحاولة استيعاب وفهم بأيّ شكل وبأيّ أثر سميائي تؤثر الاختيارات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية على تحوّلات مجتمعاتنا وعلى نُظمنا العقائدية والتحديدات التي تقترحها عموما وتوفّرها لكل واحد منّا.
إن مستوى البحث السميائي النافذ والمناسب سوف يتجاوز بالتالي، التحليلات العادية والأكثر شيوعا ليطرق باب فرضيات قرائية غاية في الدقّة والفعاّلية والتأثير، خاصة على مستوى تناوله للنصوص والصور تحديدا. ويمكن الإمساك بهذا المستوى الأمثل، على الأقلّ، في الممارسات والتفاعلات الاجتماعية، وإن أمكن على مستوى أساليب الحياة وأنماط الوجود الاجتماعي، وبشكل عام كل ما يتعلق بالتجربة الإنسانية في شموليتها. إن هذه المستويات التحليلية، بحكم تعريفها وطبيعتها، تدمِج موضوعات تنتمي لمستويات أخرى (نصوص وعلامات ودعائم إليكترونية ووسائط رقمية وإنتاجات ثقافية عامة)، يتعلق الأمر إذن بجهاز نظري ومنهجي للسميائيات يلزمنا، في نهاية المطاف، تفعيله.[6]
إن القضايا التي تطرح اليوم هي قضايا تمسّ المجتمعات، إذ ينظر لكل مجتمع باعتباره مجموعة أو نسقا دالاّ. وعلى صعيد هذا التعميم، فإن السّميائيين والأنثربّولوجيين سوف يتّفقون بسهولة على أن المجتمع يتحدّد بواسطة:
- الطريقة التي يضع بها الحدود بين الذات والآخر؛
- صيغ وأساليب الهوية الذاتية التي يقترحها بين كل أفراد المجتمع.
ولتوضيح هذا جيدا، ميّز فيليب ديسكولا بين أربعة أنماط من المجتمعات انطلاقا من سؤالين مركزيين هما: من هو الغير؟ كيف يحدد الذات ويتعرّف عليها؟ هذه المجتمعات هي: الإحيائية والطوطمية والطبيعانية والتناظرية، ولكل مجتمع طرقه العديدة والمختلفة في الإجابة عن السؤالين السالفين. [7]
ومن جهته، فقد عرّف يوري لوتمان الكون السميائي انطلاقا من الفعل الجوهري والمؤسِّس الذي يميز مجال الـ »نحن « عن مجال الـ »هم« ( فضاؤنا وفضاؤهم) مع نشر كل إمكانات الحوار والتفاعلات بين المجالين السالفين. وبالقدر نفسه، فإن المعنى ليس شيئا مخفيا داخل العلامة أو النص وإنما هو نتاج ارتباطها الحواري مع العلامات والنصوص الأخرى. وبصرف النظر عن ذلك، فالمعنى هو دائما نتيجة للحوار المثمر بين النص والقارئ ضمن سياق تاريخي محدد. ولا بدّ لأيّ علامة أو ثقافة في العملية الحوارية من شريك واحد على الأقل، لأن العلامة معزولة أو مفصولة عن باقي الأنساق الأخرى لا تعني شيئا، ولا يمكنها أن تنتج أي إخبار أو معلومات، وهو ما يبرّر عدم جدوى التواصل وفاعليته.
إن الباحث الأنثربولوجي هو أكثر إظهارا ووضوحا من الباحث السميائي في نقطة واحدة على الأقلّ: فالأنثربولوجي يحدّثنا عن تشكيل المجتمعات، وليس عن تشكيل الثقافات، لأن المجتمعات يمكن أن تتشكّل انطلاقا من دمج جزء أو كلّ من الطبيعة. وليست الثقافة سوى مجرد حلّ أو مقترح واحد من بين مقترحات عدّة داخل المجتمعات، فهي التي تساعدنا في معالجة ودراسة المشترك بين الذات والآخر وما يتقاسمانه معا، كما تساعدنا في تحديد ورسم معالم الهوية الذاتية.[8]
ولقد حدّد يوري لوتمان “الكون السميائي” من جهته في علاقته وتعارضه مع “الكون الحيوي” كما هو عند فيرنادسكي. إن الكون السميائي، بهذا المعنى لا يتطابق مع الثقافة، بل إنه بالأحرى، ينسجم، وفقا لمحدداته ومحتوياته، مع تشكيل وبناء المجتمع كمقترح لتحديد هوية أعضائه وكشرط لوجود كل سيرورة دلالية منفتحة ومتعددة. وهذا هو ما أطلق عليه يوري لوتمان “اللغات” بالجمع وفي امتدادها على نطلق واسع.[9]
ويستعمل يوري لوتمان نموذج الكون السميائي ليأخذ بعين الاعتبار أهمية الثقافة في خصوصيتها والتحولات الثقافية عامة، غير أن هذا يجبرنا على عدم الخلط بين النموذج والمتن: فالنموذج هو الكون السميائي، أما الثقافة كيفما كان نوعها وانتماؤها، فتشكل متنا خاضعا للتحليل والتوضيح. ووجود الكون السميائي هو شرط ضروري لإمكان وجود تواصل ووجود لغات. إن الكون السميائي هو كون سابق، منطقيا، على كل سيرورة دلالية.
وتعدّ كل مظاهر وأساليب الحياة – باعتبارها موضوعات سميائية – عناصر مشكِّلة للكون السميائي سواء على مستوى التعبير أو المحتوى. إنها تتضمّن العلامات والنصوص والصور والأشياء والممارسات والاستراتيجيات؛ إنها القيم والمواقف والأدوار الاجتماعية والمبادئ الموجِّهة التي تجلب الانسجام والاتساق لكل المستويات الأخرى داخل الكون السميائي في أبعاده المحايثة أو المتجلية. إنها تتجلى في هذا الكون انطلاقا من مواقف وتعابير رمزية قادرة على التأثير في أحاسيسنا وعلى وضعيات تلفظنا واختياراتنا القيمية. إنها في النهاية، تشكّلات سميائية واسعة ومتسقة ومنسجمة تساعدنا في تحديد الهوية الفردية والجماعية التي ينسبها الفاعلون لأنفسهم داخل الكون السميائي.[10] هذا الكون الذي يشكّل امتدادا للمجتمع. كما أن الحياة والوجود والتّعايش خصائص تتجاوز الكائنات الحية لتمتدّ إلى الآلات ووسائل الاتصال التي تدخل ضمن وسائل الدّمج الاجتماعي. ويترتّب عن هذا إشكال هامّ هو:
- هل السميوزيس قضية إنسانية أم أنها تمتدّ لتشمل كلّ أشكال العيش المنظّم؟
باختصار، إن مستوى التحليل في نظرنا يتعلّق بـ:
- الأنظمة الكبرى التي تحدّد هوية المجتمعات وتحدّد خصائص أكوانها السميائية،
- أنماط الوجود الاجتماعي في علاقتها بالمعتقدات والتجارب القيمية،
- أساليب الحياة باعتبارها لغات ذات مستويين: مستوى ينتمي للتعبير وآخر ينتمي للمحتوى،
- أساليب الحياة المترتّبة عن الأدوار الاجتماعية لعناصر الكون السميائي.[11]
وتفرض التحديات الكبرى للقرن الحادي والعشرين، طرح سؤالين جوهرين وهما سؤالان متشعّبان؛ يتعلق السؤال الأول بمدى:
- قدرة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبالتالي السميائيات على وجه الخصوص، على المساءلة والاهتمام بكل المظاهر النوعية للوجود الإنساني؛ بينما تهتمّ باقي العلوم بالمظاهر الكمية مثل: الديموغرافيا والاقتصاد…
ويتعلق السؤال الثاني بمدى:
- محاولة فهم السيرورات الاجتماعية وطريقة معالجة المعلومات، وصناعة الرأي والمراقبة والتتبّع للقرارات.[12]
وتتطلب التحديات التي نواجهها اليوم مقاربات نوعية وطريقة تقويم إجرائي ناجعة ونافذة. ولذلك فهي تثير أطرا مرجعية جديدة. فالتغييرات والابتكارات التي نتوخى تنفيذها تنطوي على الأقل على محاولة فهم أو مشاركة المواطنين وانخراطهم، وبشكل أعمّ ينبغي الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي يمكن من خلالها لهؤلاء المواطنين وضع ثقتهم أو التعبير عن عدم ثقتهم في التغيير، وتوقعاتهم من الشروط اللازمة لتحقيق مشاريعهم الحياتية في أبعادها الظاهرة والمضمرة.[13] ففي مواجهة المؤشرات القابلة للقياس يمكن لعلوم المعنى أن تقدّم وصفا وتقيس عبر آلياتها مدى تأثير التحوّلات الآنية أو المتوقعة التي تعرفها المجتمعات. فكل تغيير سواء كان ( عمرانيا أو تكنولوجيا أو سياسيا…) كما هو الحال بالنسبة لكل وضع مستقرّ ودائم، هو الذي يعطي معنى لثقة أو عدم ثقة الشعوب، وهو الذي يعطي معنى لقدرتهم على التأقلم والانسجام أو مقاومة كلّ أشكال وسبُل قبولهم أو تردّدهم، كما يعطي معنى كذلك للحالات العاطفية التي تخصّهم.[14]
فمن بين تحديات القرن الحادي والعشرين، نذكر على سبيل المثال: التحديّ الناشئ عن الأمن الغذائي: ماذا سنأكل؟ وكيف سنأكل؟ وكيف سننتج الأكل؟ كيف نستهلكه؟ فهذه الأسئلة ليست تقنية محضة، وإنما ذات ارتباط وثيق بتجارب الاستمتاع وأحاسيس الانتماء الهوياتي بمعنى آخر، إن هذا التحدّي الغذائي أبعد ما يكون عن تأمين وضمان رصيد طاقي كافٍ للكلّ انطلاقا من مواد غذائية صحية، لذا يتعيّن علينا التصدّي لهذا التحدّي مع الأخذ في الحسبان تقاسم الخبرات الهوياتية أو التجارب الفردية المرتبطة بالتغذية. فالممارسات الغذائية تحمل وتنقل مجموعة من القيم والأشياء المحظورة كما تحمل وتنقل الملذّات والمحرّمات والطقوس والعادات ثم الأذواق التي تناسب كل واحد منّا في التعبير عن ثقافته وتقاليده وتجعله يحسّ بالانتماء لهويته ولأكوان معتقداته ولثقافة استهلاكه.[15]
إن الوعي بهذه التحدّيات يصطدم بقدرة الخطابات المستهلكة ( الإعلام ووسائل الاتصال) على التلاعب بعقول الناس وعلى الإبهار الذي يبطل مفعول الحسّ النقدي. ممّا جعل الناس يتخذون من «مبدأ الاحتياط «شعارا لهم. ويقوم مبدأ الاحتياط هذا على رفض «فكرة الخطر«، إذ يجب تجنّب الخطر بأي شكل من الأشكال، وهذا ما سيشكّل عائقا أمام التقدّم التقني والإنساني عموما؛ لأن كل مظاهر هذا التقدّم أصبحت محلّ ريبة وشكّ. لقد أصبح الناس يحتاطون من كلّ شيء من كلّ أنواع الغذاء وأدوات النظافة والدواء والآلات… لقد أصبح الناس في أوربا مثلا، يحجمون عن تلقيح أبنائهم التزاما بمبدأ الاحتياط الذي يرى أن بعض اللقاحات أصبحت تشكّل خطرا على الإنسان وتهّد بقاءه. وهذا أدّى إلى عودة أمراض عديدة انمحت من الخريطة الصحّية الأوربية.[16]
ويمكن للسميائيات أن تسهم، في مواجهة هذه المشاكل، جنبا إلى جنب مع الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون، على وجه الخصوص، ليس فقط في تحديد الإطار النظري والمنهجي الذي يعطيها كافة تحقّقاتها المعنوية، ولكن أيضا في الدراسة النسقية للتأويلات الممكنة وفهم الآليات الاجتماعية والسميائية لتفادي المخاطر المحدقة بهذه العملية وكذلك في دراسة عمليات التقويم والتحكيم المتعلقة بهذا النوع من القرارات التي يصعب التوقّع بآثارها المحتملة.
إن معظم السياسات العامة في الدول المعاصرة، تسلط الضوء على مجموعة من التحدّيات وتخصص تمويلا لمجموعة من المشاريع البحثية تحدّد الانتظارات الجماعية لتلك الدول. ومن بين الموضوعات والقضايا المطروحة للبحث والتي تشكل تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية في واقعنا الحالي هي تلك المتعلقة بشأن: الغذاء والبيئة والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان والسكان والصحة والولوج إلى الطاقة والمياه والمعلومات والتعليم والابتكار والأمن والإرهاب… ولا تغطي هذه الموضوعات المشروع في كليته، إنها ليست سوى أمثلة قليلة بارزة طافية على المشهد، والتي تشكل موضوع طلب اجتماعي وسياسي عاجل. وهي موضوعات شغلت الرأي العام وحظيت باهتمامه من خلال المعتقدات والانتظارات المرتبطة بأنماط الحياة السائدة حاليا. ومع ذلك نأمل أن تكون هذه القلّة القليلة من الأمثلة كافية لإقناعنا بأن الإجابة على التحديات المجتمعية للقرن الحادي والعشرين ليست ضمن التطبيقات السميائية، بل إن هناك تحديات علمية حقيقة تسائل السميائيات حول الأهمية نفسها للمناهج والاهتمامات الحالية. هناك فرق واحد على الأقل يجب أن يحسم في هذه القضايا، خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا زالوا يعتقدون، في التمييز الموجود بين سميائيات نظرية وأساسية وسميائيات تطبيقية ثم بين سميائيات عامة وأخرى خاصة. تعدّ هذه الاختلافات سمة مميزة دالّة على ضبط منهجي خاص بمجال السميائيات ومركّزة على قضاياها الداخلية.[17]
لقد أثارت هذه التحدّيات الاجتماعية، قضايا علمية مصحوبة بجهاز مفاهيمي ومنهجي دقيقين لم يكن في متناول أو ضمن توقعات أغلبية الباحثين. لقد أثيرت هذه القضايا على مستوى ونطاقٍ لا يمكن للسميائيات أن تعالجه دون مساءلته والتشكيك فيه. لقد كانت لهذه التحدّيات انعكاسات نظرية ومنهجية لا تتناسب مع ما أسميناه بشكل تقليدي تطبيقا سميائيا. ففي هذه الحالة، هناك أمور قليلة يمكن التطبيق عليها وأخرى كثيرة يلزم اكتشافها وإنتاجها.[18] «ففي اليوم الذي تتناول فيه السميائيات العالم كما هو، أو كيف يسير، وتهتم بالناس كيف كانوا وكيف أصبحوا فإنه سيصبح للسميائيات شأن عظيم وستكون، دون منازع، واحدة من أهم التخصصات المعرفية داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية. ففي العقود الأخيرة، وحتى يومنا هذا (خلافا للسنوات التي أّسس فيها رولان بارت وغريماص السميائيات البنيوية)، كانت السميائيات أكثر اهتماما بالعالم كما تتمّثله والإنسان كما تتخيّله وتتصوّره… وفي حالات قليلة (كما يتضح في تيار “السميائيات الاجتماعية” كما يروج لها إيريك لاندوفسكي، كانت السميائيات تهتم بنفسها. «[19]
إن المناظرات الإبستمولوجية الكبرى التي جعلت من السميائيات موضوعا لها ( سواء تلك كانت مع أو ضدّ المحايثة أو تلك التي كانت مع أو ضدّ الطابع التوليدي أو تلك التي كانت مع أو ضدّ المربّع السميائي…) هي مناظرات مشروعة ونتائجها لا يمكن أن تكون دون آثار على قدرة الضبط وعلى الاهتمام بأمور أخرى غير نفسها. غير أن هذه المناظرات لم تقنع أحدا بأهمية النتائج الاجتماعية والثقافية التي حصلت عليها. كما أنها كانت أقلّ إقناعا بالنسبة للتخصصات الأخرى التي تستعدّ لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين لفسح المجال أمام مناهج ونتائج السميائيات المعمول بها حاليا في البرامج الكبيرة المتعددة التخصصات. بمعنى آخر، إن الأجدر بالسميائيات أن تهتم بالظواهر المتعددة الأبعاد والمتعددة الأوجه والتي تهتم بأكبر عدد ممكن من البشر. [20]
إن التركيز الحصري على موضوعات يمكن الوصول إليها مباشرة عبر مناهج موجودة، وخاصة مناهج تعتمد المعيار النّصّي، ليس شيئا غريبا عن هذا السياق. فاكتشاف النصّية هو لحظة حاسمة في تشكيل السميائيات باعتبارها تخصصا مستقلاّ. غير أن التركيز الحصري وديمومة هذا النوع من التدليل يصبح عقبة ابستمولوجية ومنهجية واستراتيجية. إن معظم التخصصات داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية تتحاور اليوم انطلاقا من استراتيجيات محايثة وعلى أرضية مشتركة وبمستويات مركّبة تتجاوز بشكل كبير المستويات النصية: فالأنثربولوجيا والتاريخ والسوسيولوجيا تستهدف، بشكل خاص، مستويات تنظيمية محددة وظواهر ذات أبعاد ونطاقات متعددة وتتبنّى قضايا مصيرية لها تأثير على حياة شعوب بأكملها.[21]
إن تمسّك السميائيات فقط بمواضيعها المفضلة حيث النصوص والصور والوسائط، يجعلها تخاطر وتجازف بنفسها. ومن صور هذه المخاطرة عدم قدرتها على إسماع صوتها كتخصص بالنسبة لباقي التخصصات الأخرى داخل العلوم الإنسانية. إن هذا هو السّبب الذي جعل التّجربة السميائية باعتبارها تجربة لكل الممارسات وأساليب الحياة وأنماط الوجود ومظاهره، من بين تجارب أخرى، تجربة تتسم بالانسجام النظري والمنهجي وهي تجربة يتعيّن علينا بناؤها على نحو أفضل، وهي بهذا تمنحنا فرصة لمجابهة التحدّيات التي تواجهنا مهما كان وضعها وسقف ارتفاعها. فتنوع السيرورة الدلالية واختلافها هو شيء معروف اليوم والشيء نفسه بالنسبة للمستويات المحايثة: بقي أن نختار فقط ونطور ما يناسب لمواجهة التحديات المجتمعية المستقبلية. فالسميائيات الاجتماعية والسميائيات الأنثربولوجية أو الأنثربولوجيا السميائية أو أيّا كان اسمها وربما سيكون من الأفضل عدم تسمية هذه المنظورات البحثية مادامت تدرج جميعها تحت اسم السميائيات.[22] ورهانها هو العمل دائما على تجديد موضوعاتها.
هوامش الدراسة
[1] – اعتمدت بشكل كلّي في هذا المبحث على ما كتبه الباحث السميائي جاك فونتاني في دراسته الشهيرة: السميائيات في مواجهة التحديات المجتمعية الكبرى للقرن الحادي والعشرين المنشورة في مجلة Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.
[2]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.
http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532.
[3]– Ibid.
[4]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.
[5]– Ibid. http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532
[6]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.
[7]– Philippe Descola, Par-delà nature et culture, Paris, Gallimard, 2005. Cité in ; Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[8]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[9]– Ibid . http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532
[10]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[11]– Ibid . http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532
[12]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[13]– Ibid. http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532
[14]– Ibid. http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532.
[15]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.
[16]– Ibid . http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532.
[17]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[18]-Ibid . http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532.
[19] – Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[20] -Ibid . http://epublications.unilim.fr/revues/as/pdf/532
[21]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015
[22]– Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015.