آخر الإدراجات

الثقافة باعتبارها نصّا

الثقافة باعتبارها نصّا

  1. النصّ سيرورة ثقافية مركّبة.  

يجمع كل من ليفي ستروس[1] ورولان بارث[2] ويوري لوتمان وبياتيغورسكي[3] وفاينير إرين بورتيس[4] وجون غالاتي[5] وإليزابيت فاين…[6] وكلّ من حذا حذوهم بأن الثقافة هي نسق ومجموعة من النصوص. لكن ما هو المعنى الدقيق الذي ينبغي أن نُسنده لهذا التعريف؟ فإذا استعملنا كلمة نصّ باعتباره مجموعة من العلامات اللفظية، فإننا سنكون لا محالة أمام وضع يقصي العديد من النصوص داخل ثقافة ما؛ فالثقافة لا تشتمل فقط على ما هو لفظي، بل أيضا هناك ما هو غير لفظي داخل هذه الثقافة. هل يعدّ النص في أدبيات لوتمان السميائية نموذجا مصغّرا للثقافة، قادرا على إنتاج دلالات لا حصر لها؟ وهل يمكن الإقرار بأن الممارسة السميائية قد نحت منحى مغايرا عندما حاولت الانتباه إلى الهامشي في النص، فلا يكون النص، أنذاك إلاّ مغمورا بحركتي التاريخ والثقافة؟ ألا يقتضي مثل هذا التصوّر النظر إلى الثقافة باعتبارها حدثا نصّيا؟ وماذا يعني لوتمان بقوله: إن الثقافة في مجملها، تعدّ نصّا ذا بنية مركّبة؟ 

يشكل مفهوم النص أحد الأركان الأساسية التي تقوم عليها نظرية لوتمان السميائية. ويمكننا أن نذهب بعيدا في قولنا إن سميائياته الثقافية تجعل من النص مركزا لها، بل إنه هو الموضوع الرئيسي للدراسة السميائية. ويبدو أن تعريف النص عند لوتمان أشمل وأوسع بكثير حتى من مفهوم العمل الأدبي: فبالنسبة إليه فالقطعة الأثرية أو أيّ تحفة أو مصنوعة يدوية في أدائها الوظيفي ورسالتها الترميزية تعدّ نصّا. وكل ثقافة تنتقي من مجموع نصوصها الكبرى، نصوصا فرعية هامّة ومعبّرة عن الهوية الثقافية لأفرادها. وإن انتقاء عدد من النصوص يمكن أن يكون مؤشّرا قويا لظهور ثقافة دالّة على التنظيم الذاتي للمجتمع. ويعكس القيمة السليمة والمتساوية بين النصوص في تصريف الثقافة.

وتختلف المعايير التي يقوم بموجبها أفراد الثقافة باختيار النصوص التي تعبر عن هويتهم الثقافية من ثقافة لأخرى؛ فهي تعتمد على وسائل الإعلام المستخدمة في الثقافة المعنية. ويصعب وصف هذه العلاقات لأن كل ثقافة تطور مفهومها الخاص للنص، وغالبا ما تصنّف خارج محيطها وكونها السميائي النصوص التي لا صلة لها بهويتها.

ويحسم لوتمان في معايير انتقاء النصوص اللفظية في قوله: إن النص هو ذاك الذي يكون محفورا في الحجر أو منقوشا على المعدن بدلا من ذلك الذي كُتب على مادة غير دائمة. وينتج عن هذا التقابل مجموعة من الثنائيات مثل: دائم/ مستمر  في مقابل مؤقّت/ قصير الأمد. كما أن ما كتب في مخطوط أو على الحرير يتعارض مع ما كتب على الورق وفقا للتعارض بين «ثمين وغير ثمين.» وإن ما كتب في كتاب يختلف مع ما تمت طباعته في إحدى الصّحف وما كتب في ألبوم يختلف مع ما كتب في رسالة وفقا للتقابل بين «ممكن حفظه» مقابل «معرّض للتدمير.»[7]

إن النص بالتالي، يعدّ نسقا مركّبا من العلامات المعبّرة عن وسط ثقافي ما. وهذا ما أشار إليه  رولان بوسنير من خلال ذكره ما يميّز النصوص من خصائص:[8]

  • إن النصوص ذات قيمة عالية، هي تلك التي يتم الحفاظ عليها، من خلال ترديدها في الطقوس والمناسبات الرئيسية (أي في السياقات المقدسة) أو عن طريق تخزينها في بيئة محفوظة بعناية (على سبيل المثال، في مكتبة).
  • تحدِّد النصوص ما هو حقيقي وأصيل لأفراد الثقافة، وهو ما يعطيها مصداقية في التعبير عن تلك الثقافة.
  • ·       تسنّ النصوص المعيار والتشريع الثقافي لأفراد الثقافة وأجيالها. وهي نصوص تظل ثابتة على حالها، حتى ولو تغيرت ظروف حياة هؤلاء الأفراد.
  • تصبح النصوص، مع مرور الوقت، غير مفهومة لأفراد الثقافة، حيث يتم الاحتفاظ بعلاماتها بينما تخضع الشفرات المميزة لها لتغيير كبير؛ تتطلب معه النصوص تفسيرات وترجمة.

ويعدّ النص، حسب لوتمان، فسيفساء ثقافيا متعددَ الصيغ واللغات يتجاوز حدود ما هو أدبي، لأنه مولِّد لعدد لانهائي من النصوص؛ وهو بهذا التصور يُكسب السميائيات حياة أخرى. إذ يتمّ النظر للنص باعتباره سيرورة دلالية متعاضدة (سميوزيس) أو كونا سميائيا يتجاوز كل تصور ينظر للنص باعتباره الشيء في ذاته، أو باعتبار النص فقط علامة لفظية. فالنص في تحديد يوري لوتمان يتجاوز ما هو لفظي مادي داخل ثقافة ما –باعتبارها مجموعة من النصوص- إلى ما هو لا مادي ورمزي. ويَعقِب لوتمان بهذا التصور تصور السميائي الأمريكي شارل ساندرس بورس في تصور هذا الأخير لمفهوم السميوزيس أو السيرورة الدلالية في توليدها وتأويلها لأنساق الثقافة، كما يتقاطع مع تصور أمبرتو إيكو في تصوراته لمفهوم التعاضد النصي والمفاهيم البانية له.

فالعلامة عند بورس « هي شيء يعوِّض بالنسبة لشخص ما شيئا ما بأيّة صفة وبأيّة طريقة. إنها تتوجّه إلى شخص ما، أي تخلق في ذهن هذا الشخص علامة موازية أو ربما علامة أكثر تطورا. وهذه العلامة التي تخلقها أسميها مؤوِّلا للعلامة الأولى. وهذه العلامة تحلّ محلّ شيء ما: موضوعها. إنها لا تحلّ محلّ هذا الموضوع، تحت أيّة علاقة كيفما كانت، بل عبر الإحالة على فكرة أطلقت عليها أحيانا عماد الماثول»[9].

   إن هذه الدينامية (ماثول يحيل عل موضوع عبر مؤول أي سلسلة الإحالات) هي ما يشكل في سميائيات بورس ما يطلق عليه السميوزيس؛ أي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالات وتداولها، وهي المسؤولة عن العلاقة السميائية التي تربط الماثول بالموضوع عبر الأشكال التوسطية التي يقوم بها المؤول، «إن العلامة، هي كلّ ما يحدِّد شيئا آخر (مؤوِّلها) ليحيل على موضوع تُحيل عليه هي نفسها (موضوعها) بنفس الشكل، ويصبح المؤوِّل بدوره علامة وهكذا دواليك في إطار سلسلة لامتناهية.»[10]  يتعلّق الأمر، إذن، بعلاقة ثلاثية، وهي في عمقها علاقة سميائية خاضعة لمبدإ التنظيم والتركيب. إن هذه العلامة تضع للتداول ثلاثة عناصر: ماثول (أول) يحيل على موضوع (ثان) عبر مؤول (ثالث). ويصبح هذا الأخير بدوره علامة تنبثق عنه سلسلة لا متناهية (نظريا على الأقل) من الإحالات.

استنادا إلى هذا وجب النظر إلى العلامة بوصفها وحدة ثلاثية المبنى غير قابلة للاختزال في عنصرين كما هو الحال عند سوسير في الدال والمدلول؛ «فإذا كان سوسير يصرّ على استبعاد المرجع من تعريفه للعلامة ويعتبره معطى غير لساني، فإن بورس ينظر إلى المسألة من زاوية أخرى. فبناء العلامة يرتكز في تصوره عل فكرة الامتداد التي تجعل من الكون بكل مكوناته وحدة لا تنفصم عراها. فما يؤثث الكون ليس أشياء مادية، بل علامات، ونحن لا نتحاور مع واقع مصنوع من ماديات، بل نتداول هذا الواقع من خلال وجهه السميائي “إننا نحيا داخل كون رمزي، (…) وبقدر ما يزداد النشاط الرمزي يتراجع الواقع.”»[11] ولا تنتج العلامة عند بورس دلالة أحادية ومكتفية بذاتها ولا يمكن أن تُطرح وتُعزل بعيدا عن تحققاتها، إنها تولّد عددا من التمثيلات المتسلسلة، يمكن النظر إليها بوصفها سيرورة تدليلية منتجة لمعرفة أكثر عمقا وتطورا. ولا يمكن للذات الإنسانية أن تفكر خارج هذه السيرورة.  هذا يعني أن الأشياء المرتبطة بالتجربة الإنسانية والتي تشتغل باعتبارها علامة، يتم تداولها كذلك بوصفها سيرورة سميوزيسية تتحدد كتكثيف لهذه التجربة والممارسة بكل أبعادها وتجلياتها الذهنية والعملية. فالسميوزيس لا تقف عند حدود النسق المنمذج الأولي الذي يحيل عليه التمثيل من خلال إحالته الأولى، بل تشير إلى إمكان استمرار هذه الإحالات دون انقطاع إلى ما لانهاية. فما نحصل عليه في نهاية المسير التأويلي هو حدّ بدئي لمعرفة عميقة تطرحها العلامة. فكلّ مؤوِّل جديد يشرح الموضوع السابق انطلاقا من معارف وتصورات جديدة، وهي تصورات تجعل من السميوزيس بؤرة للتوالد الدلالي اللامتناهي، هذا اللاتناهي لا يفصل العلامة عن أصلها، بل يحافظ على هويتها وتماسكها

ولتوضيح هذا التوالد نستعين بالشكل الآتي:[12]

إن اللانهائي في هذا التوالد الإيحائي، وهذه السيرورة التدليلية لا يقيم قطيعة مع الحدّ البدئي، إنه يقوم بتعميق تمثّلاتنا ومعارفنا التي وضعت للتداول في الإحالة الأولى. غير أنه إذا كانت سيرورة السميوزيس سيرورة تأويلية لامتناهية، فعلينا أن نفهم بأن عملية التأويل هذه ليست عملية حرّة، بل إنها حرية مشروطة؛ أي بقدر ما توهمنا عملية التأويل في أننا أحرار فيما نقول، فإننا في الوقت نفسه نجد أنفسنا مجبرين على تأويل وذكر ما يرد الشيء المؤوَّل قوله.

ومن منظور بورس، فلا وجود لعلامة في ذاتها، بل يمكن لكل شيء ولكل ظاهرة أن تصبح علامة. والتحوّل إلى علامة يعني الدخول في السميوزيس. بهذا المعنى «فالسميائيات ليست علم العلامات، بل هي علم السميوزيس.»[13] فالسميوزيس لا تقف عند حدود رصد المعنى الأولي الذي يحيل عليه التمثيل من خلال إحالته الأولى، بل تشير إلى إمكان استمرار هذه الإحالات وانفتاحها على عوالم ممكنه.

إن صياغة هذه السيرورة السميائية، معناه وصف سلسلة الحجج البانية لهذه السيرورة، بدءا بإدراك العلامة وانتهاء بحضورها في ذهن الشخص المؤوِّل لموضوع هذه العلامة. وهذا لن يتحقق إلاّ عندما تستقرّ هذه السلسلة في نقطة ما. أي إنها تعيد إنتاج الموضوع نفسه في إطار سيرورة لامتناهية. فكلّ علامة هي موضوع تجربة، وإدراك نواة هذه العلامة، ومختلف عناصرها يجعل إمكانية فهمها أمرا ذا أهمية. وأول ما تبتدئ به هذه السيرورة هو تأكيد حقيقة التمثيل، بعد ذلك، فإن كل سيرورة استدلالية تالية تقتضي إنتاج متوالية من العلامات أكثر تطورا؛ ذلك أن موضوع العلامة يصبح هو الآخر موضوع بحث مستمر، والحجج والأفكار البانية لهذه السيرورة تسعى في كل خطوة إلى تأمين المرور من تمثيل لآخر، من موضوع إلى موضوع آخر لم يُحدّد بعد. ثم تتوقف هذه السيرورة في لحظة ما، لتستمرّ رحلة البحث عن المعنى من جديد. وفي كلّ بحث نصطدم تارة بالإنتاج وأخرى بالتأويل: الأول هو اختيار لتمثيل ما، أما الثاني فهو بحث مستمر حول هذا الاختيار. بمعنى آخر، تركّز هذه السيرورة الدلالية على إعادة بناء النواة الخاصة بالموضوع الذي يتم ربطه أو إيصاله دائما بالعلامة. إن الأمر يتعلق ببحث مستمر، وهو بحث يُفضي بنا إلى قضايا دلالية أكثر عمقا، وأكثر تطورا، وتكرار هذا البحث يولِّد لنا عادات في التأويل.

تنطلق هذه السيرورة من عنصر لتصل إلى عنصر آخر، وكيفما كانت طبيعة الظاهرة المدروسة، فإن الانتقال من العنصر الأول إلى العنصر الثاني لا يمكن أن يتم عن طريق الصدفة، وإلاّ أصبحنا أمام سيرورة غير متماسكة. لذلك يجب التعامل مع هذا الانتقال بوصفه معطى توسّطيا بانيا ومتحكِّما في كل المسيرات التأويلية التي تربط بين العنصر الأول والعنصر الثاني.

ومن التقسيمات الثلاثية الأكثر تداولا في سميائيات بورس هي التي تسمى: أيقونة وأمارة  ورمزا. بمعنى آخر، فعلاقة العلامة بموضوعها علاقة قائمة على التشابه ( أيقونة )، أو على التجاور السياقي ( أمارة ) أو هي قانون وقاعدة ( رمز ).

  • الأيقونة: إن أيّ شيء، كيفما كان نوعه سواء كان نوعية أو فردا موجودا أو قانونا هو أيقونة لشيء ما، شريطة أن تشبه هذا الشيء وأن تستعمل كعلامة لهذا الشيء.[14]
  • الأمارة: علامة تحيل على الموضوع الذي تقوم بتعيينه انطلاقا من تأثّرها الحقيقي بذلك الموضوع. ولا يمكن للأمارة أن تكون علامة نوعية مادامت النوعيات في استقلال عن أيّ شيء آخر. [15]
  • الرمز: علامة تحيل على الموضوع الذي تدلّ عليه أو تشير إليه بموجب قانون، وعادة ما يكون تداعيا من الأفكار العامة. ويحدّد هذا القانون تأويل الرمز بالإحالة على ذاك الموضوع.

لقد قد أوضح أمبرتو إيكو بأن الأيقونة علامة تمتلك خصائص الموضوع الممثّل، لا يعدو كونه تحصيل حاصل، ذلك أن الأيقونة لا تستطيع كيفما كانت مهارة الفنان ودقّة الآلة أن تحاكيها وتنتج لنا نسخة مطابقة. فأنت إذا شاهدت كأسا من الجعّة على صفحة إشهارية، فإنك ستدرك الجعّة، ولكنك لن تحسّ بها، لن تحسّ لا بانتعاشها ولا ببرودتها. قد تحسّ بدوافع أو مثيرات بصرية ـ الألوان، التنسيق الزماني والمكاني ـ ولكنك لن تُوفّق في إدراكها دفعة واحدة ، ولكي يتمّ لك ذلك عليك أن تقوم بعملية تنسيق بين كل العناصر لتثبّتها في بنية إدراكية، أي أنك تعمل على سنن موجودة قبلا. إن العلاقة الموجودة بين السنن والإرسالية لا تتعلّق بالعلامة الأيقونية، بل بميكانيزم الإدراك باعتباره واقعة إبلاغية. على ضوء هذه المعطيات يقدّم أمبرتو إيكو الخلاصات الآتية:

  •  إن العلامات الأيقونية لا تملك خاصّيات الموضوع المُمثّل، إنها تُعيد إنتاج بعض شروط الإدراك المشترك على أساس السنن الإدراكية العادية، عبر انتقاء بعض الدوافع أو المثيرات التي تسمح لي بتشييد بنية إدراكية تملك الدلالة نفسها التي حدّدتها التجربة الواقعية بواسطة العلامة الأيقونية.

 بناء على ذلك، يحذّرنا أمبرتو إيكو من التعريف السالف، فنعتبر العلامات الأيقونية ـ انطلاقا من مبدأ التشابه ـ علامات طبيعية يمكن التعرّف عليها بمجرّد إدراكنا لها بالحواس في غياب تعاقد سابق يحدد منحى تأويلها ويربط بين دالّها وما يحيل عليه فيها. إن التشابه الذي ندركه بين الصورة والشيء المصوَّر هو نتاج أو حصيلة لممارسة ثقافية واجتماعية يطلق عليها إيكو سنن التعرُّف.[16] كما يعارض فكرة التعليل في الأمارة، بحكم أن إدراك الموضوع عبر الأمارة ليس بسيطا، إنه يستدعي سننا إدراكية قبلية (سنن التعرّف): سياسية وثقافية وإيديولوجية واجتماعية وتاريخية… وبالتالي فالانطلاق من دالّ الأمارة إلى مدلولها أو ما تحيل عليه، لا يتم انطلاقا ممّا يوفّره الأول من خاصيات الموضوع المشار إليه، بل من تجربة محصّل عليها سابقا. كما أن الرمز يعدّ تجسيدا لرابط دلالي بين عنصرين ( الأيقونة والأمارة)، لذلك فهو يشتغل بوصفه سيرورة توسطية تعيد تنظيم التجارب الإنسانية لكي تصبح تجارب عامّة وكونية، »فالرمز يساعد الإنسان في التخلّص من مقتضيات التجربة المحدّدة والمباشرة ويساعده كذلك في التخلّص من الكون المغلق للأشياء المتناظرة. فمن خلال الرمز تتسرّب ذاكرة الإنسان إلى اللغة، وعبره يُدرج الإنسان رغبته ضمن أفق مشاريعه الخاصّة.«[17]

ولقد أسند يوري لوتمان للرمز وظيفة ثقافية لا تعبّر عن محتوى محدّد فقط، بل إنها تحيل أيضا على حقل دلالي خاص. كما ربط الرمز بالأسطورة. فالرمز هو كون أسطوري مصغّر والأسطورة هي رمز يتضمن حبكة ما. وبهذا المعنى يقترب الرمز من الاستعارة لأن كليهما ينتجان عن تفسير وترجمة الأسطورة داخل مجال غير أسطوري، »فالنص الأسطوري يدرك باعتباره نصا رمزيا عندما يتم التعبير عنه في سياق وعي غير أسطوري.«[18] لذلك اكتسى مفهوم النص عنده أهمية خاصة. فهو الوحدة الأساسية للثقافة وحاصل كل نسق تواصلي إبلاغي والموضوع الجوهري للدراسة السميائية. إن النص بهذا المعنى لا يختلف عن السميوزيس والكون السميائي في انفتاحهما. 

   ولقد نظر لوتمان لمفهوم النص بصورة تختلف عمّا هو سائد أو متداول في عرف اللسانيين والمهتمين بتحليل الخطاب. كما لم يقتصر في نظرته هذه للنص على وظيفته التواصلية، ولكن تمّ النظر إليه باعتباره جهازا لتحويل الرسائل وإعادة إنتاجها وفق التنظيم والتسلسل الهرمي للقيم الثقافية. فهو مشكّل من طبقات غير متجانسة. وله القدرة على ربط علاقات معقدة مع السياق الثقافي والفاعلين الثقافيين. فهو مرتبط بالفاعلية الذهنية والذاكرة الثقافية. ومن ثم فالتحولات النصية تعكس تحولات الوضع السميائي في مجموعه: إن النص سيرورة وليس بنية. وإن الوظيفة الأساسية للثقافة هي التنظيم المُبنْيِن للعالم المحيط بالكائن البشري، إنها مولّدة لبنيات(نصّية وسَنَنِيّة) ذات تنظيم ذاتي تشكل حول الإنسان كونا ثقافيا.

هوامش الدراسة


[1] -C. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, 1958.                                

[2] – R. Barthes, Eléments de sémiologie, Paris, 1964.                                        

[3] – Y.-M. Lotman et A.-M. Piatigorski « le Texte et la fonction », Semiotica, 2, 1969.

[4] – Winner, Irene Portis: “Ethnicity, Modernity, and the Theory of Culture Texts”. In: Winner/Umiker-Sebeok 1979.

[5] –  John; Galaty G.:  “Models and Metaphors.  On the Semiotic Explanation of Segmentary Systems”. In: Ladislav Holy/Milan Stuchlik (eds.): The Structure of Folk Models. London: Academic Press 1981,

[6] – Elizabeth; Fine C. The  Folklore  Text. From  Performance  to  Print. Bloomington, Indiana UP 1984:      

[7] – Yuri M Lotman. 1981. On the language of animated cartoons. In: O’Toole, Lawrence Michael and Shukman, Ann (eds.), Film Theory and General Semiotics. (Russian Poetics in Translation 8.) Oxford: Holdan Books (RPT Pub.),p. 36.

[8] -Roland Posner 2005. Basic tasks of cultural semiotics. Op. Cit. p. 325./326.

[9]– Charles Sanders. PEIRCE. Ecrits sur le signe, rassembles, traduits et commentes – par- Gérard Deledalle, ED. Seuil, Collection, L’ordre Philosophique, Paris, 1978, P:121.      

[10]– Ibid, P:126.                                                                                                     

[11] – سعيد بنگراد: السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، ص:92.

[12]– Nicole Everaert _Desmedt: Le Processus Interprétatif; , Introduction à la    Sémiotique de C. S. Peirce ; Ed ; Mardaga Editeur, 1990 ; P. 41. 

[13]Francoise Armengaud. La Pragmatique, que sais-je? N:2230, ED: Press -Universitaires –  de France 1985, P.19.

[14] ـ Charles Sanders PEIRCE,    Ecrits sur le signe, OP. Cit, PP : 139 / 140.   

[15] ـIbid: P : 140.                                                                                                 

[16] -Umberto, Eco. La Structure Absente ; ED, Mercure de France, Paris, 1972; PP:175/176.                        

[17] ـEnrico, CARONTINI . L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit, P:47.                

[18] -Juri , Lotman, and Uspenskij Boris. “Myth—Name—Culture.” In Soviet Semiotics: An Anthology, edited by Daniel Lucid, 233–52. Baltimore: Johns Hopkins University Press. 1977.p.240-241.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.