- خصائص النص الفني وبنياته
قدّم لوتمان في دراسته المنشورة سنة 1981 سميائيات الثقافة ومفهوم النص وصفا لاتجاهين سميائيين كان لهما الفضل في تطوير الدرس السميائي غضون السنوات الماضية:[1]
- اتجاه أول حاول صقل المفاهيم الأولية وتحديد السيرورة التي يتم بها توليد المعنى. وقد كان لهذا المجهود دور محوري في تشييد سميائيات واصفة. فلم يعد موضوع الدرس السميائي هو النص في ذاته، بل سيصبح هو دراسة نماذج النصوص وأنواعها، أو نماذج النماذج.
- اتجاه ثانٍ حاول التركيز على الاشتغال السميائي للنصوص. وعقب هذه الممارسة، فقد اعتبر هذا الاتجاه السمات النصية غير المتّسقة والسمات العرضية قضايا مركزية. خلافا للاتجاه الأول الذي عمل على إبطالها واعتبرها ممّا يخلّ بالمعايير التي تساهم في بناء النصوص النماذج. [2]
لقد حاول الاتجاه الثاني، كذلك التركيز على المظاهر السميائية للكلام في انزياحاتها عن بنية اللغة المعيار. وبتأكيدنا على هذا الطرح والدعوة له، قدّم لوتمان وصفا للسميائيات الثقافية معتبرا إيّاها مبحثا معرفيا أو تخصصا يهدف إلى دراسة الأنساق السميائية المتعددة والمختلفة في محيطها المتّسم باللاّتجانس واللاّتطابق. ولقد كان النص باعتباره نسقا سميائيا محور اهتمام لوتمان أو أنموذجا مصغّرا للثقافة يهدف إلى إنتاج المعنى داخل فضاء سميائي تغمره حركتي الثقافة والتاريخ من جهة، والنظر إلى الثقافة باعتبارها حدثا نصيا ذا بنية مركبة من جهة أخرى. لذا فليس من غريب الصدف أن تكون باكورة أعماله تتحدث عن بنية النص الفني مشيرا إلى الخصائص الإبداعية والتوليدية التي تجعل منه نصا قادرا على التعبير عن أكوان دلالية منفتحة، والتي نذكر منها:
- التعبيرية: أي قدرته الفائقة على التعبير. فكل نص يقوم على جملة من العلامات المتسقة والمضبوطة في مقابل بنيات توجد خارجه،
- اللاّمحدودية: أي تجاوزه لكل الحدود. فالنص الفني يختلف عن كل علامة لا تدخل في نطاقه بناء على مقولتي الانتماء واللاّنتماء،
- الاتساق البنيوي: أي إحكامه وتنظيمه البنيوي الواضح، ممّا يعني أنه له بداية وله نهاية. [3]
وتظهر تعبيرية النص في تحققات النسق داخل النص، وقد أشار يوري لوتمان مع بياتيغورسكي لهذه التعبيرية عندما كانا يتحدثان عن وظيفة النص المتمثلة في «العلاقة المتبادلة بين النسق وتحققاته داخل النص وبين المرسل والمتلقي.» ومن الجلي هنا أن رواد مدرسة تارتو−موسكو السميائية يحذون حذو الشكلانيين، فيعرف تينيانوف الوظيفة الأدبية باعتبارها «علاقة العمل الأدبي بالنسق الأدبي»، أو كما يقول لوتمان هي علاقة النص بالنسق: «يمكن أن نطلق اسم الوظيفة البنائية على علاقة كل عنصر بغيره من عناصر العمل الأدبي وكذا علاقته بالنسق الأدبي ككل. إن الوجود الحقيقي للأدب يتوقّف على اختلافاته النوعية التي يقيمهما بين النسقين الأدبي، والخارج أدبي، وهكذا فإن وجوده يتوقف على وظيفته» على حدّ تعبير تينيانوف. إن العمل الأدبي هو نسق من العوامل التي تربطها علاقات متبادلة، وارتباط كل عامل بغيره هو وظيفته بالنسبة إلى النسق ككل. ومن المنطلق نفسه فإن التساؤلات حول ماهية الأدب، والتي حاول الباحثون الإجابة عليها على مرّ التاريخ، كلٌّ من زاوية نظره، هي تساؤلات لا أهمية لها مقارنة باختيار الحقائق الأدبية والتمييز بينها؛ إذ أثيرت التساؤلات حول ما يمكن اعتباره أدبًا من النصوص، وما لا يمكنه اعتباره أدبًا وهكذا دواليك.[4]
وبعبارة أخرى فإن تعبيرية النص هي ما يجعل من النصّ نصّا، وهي ما يتيح لنا تصنيف النص في فئة بعينها؛ أي اعتباره أدبا، وأيضا اعتباره منتميا إلى جنس أدبي بعينه، وأسلوب بعينه… فمثلا حين نقرأ رواية جديدة فإننا تلقائيًا نقارنها بغيرها فيما يخص الجنس الأدبي والأسلوب..، لنصل إلى اعتبارها نصًا له وجود مادي؛ ولأن العمل الفني يقع في التقاطع بين تسنينات مختلفة، فإن «العلاقة بين النص والنسق في أيّ عمل فنّي ليست تحققا مادّيا لبنية مجرّدة فحسب، بل هي أيضًا علاقة صراع وتوتّر وعلاقة شدّ وجذب.»[5] وفي هذا تعديل لمفهوم سوسير القائل بأن النصوص هي تحققات مادية للسان، وأخيرًا فإن تعبيرية النص تشير أيضًا إلى «الغلاف المادّي للنص: وكيف يتمّ التعبير عنه، من خلال أيّ وسيط كيفما كانت طبيعته، سواء كان أصوات اللغة الطبيعية، أو صور الفيلم، أو الرموز المطبوعة على الورق، أو التي نراها على شاشة الكمبيوتر». وما يهمنا هنا هو أنه حين يتم التعبير عن النص باستخدام مادة ما فإن تلك المادة تكتسب بدورها دلالات سميائية.[6]
ولكي يعتبر النص كلاّ سميائيا متكاملا فينبغي أن يكون مرتبًا بطريقة معينة، ولهذا فإن العلاقة بين عناصر النص أو علاماته ليست علاقة أفقية وحسب؛ وإنما هي أيضًا شبكة من العلاقات المركّبة على جميع المستويات. إن بناء النص هو تراتبية تتألف من طبقات، والعلامات تنتظم داخل هذا البناء كما تنتظم العرائس أو الدُّمى الروسية داخل بعضها البعض.[7] وبناء النص ليس حلية إضافية يتميّز بها النص، بل هو بنية نسقية قادرة على تصريف أنساق مضمرة، وبالتالي فإن أي تغيير في بنية النص يتضمن تغييرًا في معناه. ويضرب لوتمان مثالا مستعينًا بمفهوم التكرار الذي يحول النظام «العادي» للعلاقات إلى نظام مميز. ويرتكز لوتمان هنا، على ما قال به تينيانوف عن انزياحات وغرائبية اللغة الشعرية، فيقول: «إن الميل إلى التكرار هو أحد المبادئ التي يقوم عليها الشعر، أما استخدام الروابط فهو من سمات النثر.»[8] فإذا ما كان التكرار في الحديث العادي مدعاة للملل، فإنه في الشعر يخلق اختلافًا، فكل تكرار يخلق علاقة تناغم وتضاد وتجاور ومقارنة، وتتبدّى أهمية التكرار بصورة أوضح في الأسطورة، فالتكرار من سمات الطقوس (الدينية منها والدنيوية) كما أنه من سمات الممارسات السحرية؛ حيث تتماهى العلامة مع الشيء الذي تشير إليه.[9] ويبين لوتمان أن التكرار في الأدب لا يعني أننا نعيد إنتاج الشيء نفسه في كل مرة وأبدًا، بل التكرار يزيد من إبداعية النص وإنتاجيته، ويساعد على فهم بنيته. ويلخص لوتمان مبدأي التشابه في الاختلاف، والاختلاف في التشابه هذا فيقول: إنهما من أساسيات الإبداع والخلق الفني؛ أي إن هما «نصفان لا ينفصلان منهما معًا تتكوّن وحدة الوعي الإنساني.»[10]
وتتخذ وسائل تغيير المعنى أشكالا عدة داخل النص وذلك في مستوياته المختلفة، فقد تتصل بترتيب الألفاظ على المستوى الأفقي، أو بالأصوات أو الإيقاع، ولنأخذ القافية مثالا: إن الكلمات المختلفة من حيث المعنى ترتبط ببعضها البعض في القافية عن طريق التشابه الصوتي وتشابه الحروف في بعض الأحيان، وهو ما يؤدي إلى تغيير المعنى، والإيقاع وسيلة لتغيير المعنى في الشعر وفي الأدب بوجه عام. ويركز تينيانوف على الإيقاع معتبرًا إياه العامل الأساسي لبناء الشعر، ويشير إلى ما يسميه «إحكام السلسلة النظمية»، ويقصد به أن بناء البيت الشعري يشوه العلاقات النحوية والدلالية بين الألفاظ، ويجعلها خاضعة له. وبوجه عام فإنه حتى العناصر «الشكلية» في البناء النصي (مثل الفصول، والفقرات في النصوص المكتوبة، والمونتاج، وغيره من تقنيات صناعة السينما) له معنى ويؤثر تأثيرًا كبيرًا في إدراكنا للنصوص.[11]
وعادة ما تعتبر بنية النص مرادفًا لشكل النص، الأمر الذي يثير تساؤلات حول العلاقة بين الشكل والمحتوى في النص. ويتبنى لوتمان وزملاؤه نظرة الشكلانيين إلى العلاقة، فيقولون بوحدة الشكل والمحتوى، ولشرح هذا يقول لوتمان: «تحت ظروف توليد المعنى المعقدة يستحيل أن تنفصل اللغة عن المحتوى الذي تعبر عنه»،[12] وفي الواقع لو كان المحتوى فعلا أهم من الشكل الذي يحتويه، فإن الفن يصبح شيئًا عقيما لا معنى له.
وفي إطار الحديث عن بنية النص، يشير لوتمان إلى أن هناك سمة نصية لا تحتاج إلى كثير من التوضيح، وهي أن النص محدود، فحدوده، أو إطاره الحقيقي أو المجازي، هو ما يميزه عن النصوص الأخرى، وعن اللاّ نصوص، والنصوص الخارجية.[13] هل سبق أن رأيت مخرجًا ومصورًا سينمائيًا يجمع اثنين من أصابعه في هيئة مربع لينظر من خلاله إلى العالم؟ إن هذا هو الأمر بالضبط هنا؛ إذ حين نضع إطارًا حول قطعة من الواقع فإنها تتحول إلى نص، ووجود الإطار يؤثر في إدراكنا لكل عنصر من عناصر قطعة الواقع تلك، فالصورة تعني شيئًا. وفي النص السينمائي يكون الإطار أو اللّقطات التي ترسم حدود الفضاء الفني طبقًا ليوري لوتمان محدِّدًا للمشاهدين، واللعب على فكرة رسم الحدود وتمييزها أو إغفالها يتيح فرصة لتوليد معان جديدة للنص، فعلى سبيل المثال، في المسرح تقوم خشبة المسرح بدور الإطار المحدد للمساحة التي تدور فيها الأحداث، وربما أيضًا يعمد المخرج إلى إلغاء تلك المساحة لإحداث تأثيرات جديدة في الجمهور.[14]
وقد استخدم مصطلح «إطار النص» للمرة الأولى في كتاب بوريس أوسبنسكي المسمى «شعرية التأليف». ويرى أوسبنسكي أن أي نص يخلق عالما خاصًا؛ وذلك من خلال زمانه ومكانه، وهو عالم نرتبط به بوصفنا مشاهدين وننظر إليه من خارجه ونقبل قواعده كي نستطيع فهم اتصالنا به.[15] وبالإضافة إلى ذلك، فإن أيّ نص يمكن الإمساك به، بالضرورة، في ضوء علاقته بما يوجد خارجه، وكذا علاقته باللاّ نصوص، فإذا لم يلحظ المتلقي الإطار فإن النص، في هذه الحالة يعتبر لا نصاًّ. وعليه فمن المهم ألا نهتم بالعناصر الموجودة في النص وحسب، بل أن يمتد اهتمامنا إلى تلك العناصر الغائبة. وقد كتب لوتمان عن هذا منذ أمدٍ بعيد، وذلك في مقال بعنوان: «مشكلة تشابه الفن والحياة من منظور بنيوي»،[16]حيث يرى لوتمان أن النص الفني يمارس دوره بلا توقف، فمن جهة نحن دائما نضعه في مقارنة مع ذلك الذي يقوم بإعادة خلقه، وهو الحياة أو الواقع. من جهة أخرى فهو في مقارنة مع ما لا يُعاد خلقه، وكما رأينا سابقًا فإن ثمة فكرة تتكرر في كتابات لوتمان، تتلخص في: «أن عملية التلقي هي عملية ثنائية؛ إذ يدرك المتلقي ما يوجد في النص ويدرك ما لا يوجد فيه أيضًا.»[17]
وأخيرًا ففي بعض النصوص الأدبية والسينمائية قد تغيب بعض العناصر عمدًا بحيث يقوم المتلقي بتخمينها، فمن الناحية الشكلية تعدّ هذه العناصر غير موجودة في النص، لكنها في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ منه، وموقعها محدد بين أجزاء النص الموجودة فعلا.[18]
وهناك نوع آخر من الحدود النصية نجده في أعمال السرد، وهي الحدود الزمنية، فمهما تكن طريقة بناء وتطور الحبكة فإن الزمن حاضر دائمًا، ونحن ندرك عناصر العمل السردي الواحد تلو الآخر، لا في اللحظة نفسها، بعكس ما يحدث حين ننظر إلى لوحة أو نتأمل تمثالا، فالنص السردي بطبيعة الحال له بداية ونهاية، والنقطتان هما ما يجعل النص ذا معنى، «فما لا نهاية له لا معنى له.»[19]
ولقد اعتبر يوري لوتمان الثقافة نصّا، وهي نصّ متعدد اللغة بالغ التعقيد، ولهذا النصّ وظائف نسقية، وهي رؤية تشكّل الحجر الأساس في نظرية لوتمان، وهي أساس قانون التماثل الثقافي..[20] وطبقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة عقل جمعي ونص ثابت في الوقت نفسه. وقد رأينا كيف أن لوتمان يصف سمات ووظائف النص بطريقة تشبه وصفه لسمات وخصائص النسق، ويعد هذا انعكاسًا لقانون التماثل القائل بأن الثقافة نص مركّب ومتداخل إلى درجة غير مألوفة؛ إذ يتألف من تراتبية تتكون بدورها من نصوص داخل نصوص،[21] وهو ما يعيد إلى أذهاننا صورة الدّمى الروسية: فالكل متطابق، من الناحية التركيبية، مع كل جزء من أجزائه؛ إن النسق الأصغر مماثل للنسق الأكبر (أي إن الفن، مثلا، شبيه بالثقافة من ناحية الوظيفة، وكذلك الأدب شبيه بالفن…)، فأي نص يعكس الثقافة ككل في نفسه. وبهذا تكون الثقافة آلية لتوليد النصوص ونص في الوقت ذاته[22].
إن مبدأ التماثل الثقافي هو أهم ما يميز كتابات لوتمان عن التاريخ الثقافي الروسي؛ وتلخصه خاتمة مقاله المسمى «محادثات عن الثقافة الروسية» إذ يقول: «إن تاريخ حياة شخص بعينه هو صورة مصغرة من تاريخ البشرية»، فكلا التاريخين، الفردي والجمعي، منعكسان في بعضهما ويمكن فهم أحدهما من خلال فهم الآخر. إن لوتمان يرى دائمًا العام في الخاص، والعكس، فيتحدث عن انعكاس النظام في النص وانعكاس الثقافة في الحياة. ويزداد هذا المبدأ وضوحا عندما سنباشر الحديث عن مفهوم الكون السميائي[23].
إن اعتبار الثقافة نصًا في تقديرات يوري لوتمان ينحو بنا أيضا نحو وضع تصنيف لتلك الثقافات طبقًا لمبادئ بنائها النصي، وذلك لخلق لغة للثقافة. وقد اهتمت مدرسة تارتو–موسكو بهذه المسألة كثيرًا، كما اهتمت بوصف تطور الأنساق السميائية، فنشر لوتمان أبحاثًا ذات صلة بهذا التصنيف وقد نحى في ذلك منحى بنيويًا واضحًا؛ إذ يقول إن أهداف إقامة تصنيفات لأنواع الثقافة تتبدّى في:
1- وصف أنواع الأنساق الثقافية الرئيسية والتي تتشكل في ضوئها “لغات” الثقافات الفردية مع خصائصها النسبية؛
2– تحديد السمات المشتركة بين الثقافات الإنسانية جميعها.
3– إقامة نسق واحد ينتظم السمات والخصائص التي تميز كل تصنيف ثقافي، والمتصلة بالأنساق الثقافية الأساسية والسمات العامة المشتركة التي يتكون منها بناء الثقافة البشرية.[24]
كما أن لوتمان يقول إن لمثل تلك التصنيفات مهمة مستقبلية تتمثل في «إنشاء نحو للغات الثقافية.»[25]
إن الخصائص الثلاث ( التعبيرية واللاّمحدودية والإحكام البنيوي) المميزة لبنية النص الفني ترتبط ارتباطا وثيقا فيما بينها. وهذا الارتباط هو الذي يمنحها بعدها النسقي والبنيوي داخل بنية النص.
ولا شكّ أن السعي إلى تخليص البنيوية من الأزمة التي خلخلت كل ثوابتها، قد أكسب المنحى السميائي الذي رسمه لوتمان لمشروعه أهمية بالغة، بإضفاء حركية تأويلية ظهرت بشكل خاص مع تحليلاته للفضاء السميائي – كما سنرى في الفصل المتعلق بالكون السميائي – وما توفره مفاهيم هذا الكون من إمكانيات لقراءة موسعة ومتعددة للنص بما يفتح آفاقا متعددة لمقاربة المحيط الثقافي للنص.
إن النص، كما أشرنا للتّو هو بناء أو سيرورة دلالية منفتحة، وكل سيرورة يمكن أن يشتغل من خلالها شيء ما بوصفه علامة، ويؤَوّل باعتباره علامة، تسمى سيرورة علامات أو سميوزيسا. إن سيرورة العلامات مثل أي سيرورة أخرى هي سيرورة محددة منطقيا وسببيا. ويمكن لهذه السيرورات أن يختلف بعضها عن الآخر، انطلاقا من اشتمال كل سيرورة لعناصر أو سمات تميزها عن السيرورات الأخريات. وهي عموما سيرورات تنخرط في إطار تدبير الفعل التواصلي في صوره الحرفية والاستعارية من خلال إنتاج وتلقي الرسالة. فالعلامة وفق هذا التصور لا تنتج دلالة تكتفي بذاتها، بل إنها توّلد سيرورة تدليلية أكثر تطورا انطلاقا من فعل التمثيل وأشكال الإحالة، والعلاقات التي تتم بين عناصر هذه السيرورة داخل كون سميائي ما. هذه المعرفة المضافة تدلّ على أن الانتقال من عنصر داخل هذه السيرورة إلى آخر يعطي للسميوزيس بعدها التوليدي في إنتاج سلسلة لامتناهية من العلامات. فكل علامة تؤوّل أخرى ومن شأن أيّ فعل تأويلي أن يتحوّل بدوره إلى علامة ويولّد سيرورة سميائية جديدة، وهو ما يجعلنا بصورة واضحة أمام مفهومي التوليد والتأويل، وهما مفهومان يؤسسان فرضية أمبرتو إيكو القائلة: «إن المعنم (أصغر وحدة دلالية دالّة) هو نص مفترض والنص هو امتداد لآثار معنوية»[26]. وتعدّ هذه الفرضية أساسية، لأنها تفترض، وبصورة مسبقة، الدور الحقيقي الذي يُعهد للقارئ بوصفه المسؤول عن فعل التأويل، وبالتالي انخراطه في تحيين النص. لذا فإن فرضية أمبرتو إيكو السالفة ليست جديدة، ففي سميائيات يوري لوتمان ما يؤكّد وجود هذه الفرضية خاصة تصوّره المنسجم والمتكامل لمفهوم الكون السميائي بمفاهيمه وبنياته وخصائصه، لما لها من أهمية في عقد الصلة بمفاهيم متداولة كثيرا في الحقل الثقافي بكل توتراته وتناقضاته، خاصة مفاهيم التقابل الثنائي واللاتجانس واللاّتماثل والحدود والتعددية والتجاوز والترجمة والحوار… وكلها مفاهيم لها علاقة بافتراضات الذات المؤولة واقتضاءاتها والاشتغال الاستدلالي لتأويل النص. هذا الأخير يقتضي التحيين من قبل الذات المؤولة؛ وهو بذلك يفسح المجال أمامها لإمكانات تأويلية متعددة، إنه بتعبير إيكو، «منتوج يشكّل قدره التأويلي جزءا من آليته التوليدية.»[27] ولا شكّ أن توليد وتأويل نصّ ما، في حالة لوتمان، يعني تشغيل استراتيجية سميوزيسية متعاضدة تراعي التأليف والتمفصل والتنظيم بين مختلف العناصر المشكّلة للكون السميائي. إن هذه السميوزيس أو السيرورة الدلالية في بنائها المتسق والمنسجم والمتعاضد هي التي تمكّننا من وصف وتأويل أي إبلاغ أو أي واقعة داخل موضوع ثقافي ما. ولفهم ما تدلّ عليه سيرورة السميوزيس في أبعادها النظرية والعملية، لا بدّ من تحديد المستويات الدلالية التي تحتضنها؛ حيث لا وجود لمعنى إلا من خلال سيرورة تنقله من حدوده المفهومية المجردة والمتصلة والمعزولة عن أي سياق، إلى كيانات أو مستويات ملموسة يُستثمَر من خلالها هذا المعنى عبر استحضار كل أشكال التدليل التي تحققه في واقعة ما، وبعبارة أخرى الانتقال من النسق المنمذج الأولي إلى النسق المنمذج الثانوي. إن هذا الانتقال لا يتمّ بصورة اعتباطية، بل بواسطة أشكال توسطية ثقافية ورمزية تربط بين المجرد والمحسوس أو بين النموذج ونسخته، وهي أشكال تحدد العلاقات وصور التبادل الممكنة بين المستويين، «فما بين المحافل الأصلية الأولى حيث تتلقى المادة المضمونية أولى تمفصلاتها وتتشكل باعتبارها شكلا دالا وبين المحافل النهائية حيث تتجلى الدلالة من خلال لغات متعددة، يمكن إدراج محفل للتوسط تنتظم داخله بنيات سميائية تمتلك وضعا مستقلا.»[28] إن هذه البنيات لصيقة بالفعل التأويلي عند لوتمان، وهو فعل محكوم باستراتيجية تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارسات وسلوكات مخصوصة.
إن هذه النظرية ترتكز في بنائها على معالجة كل الظواهر بوصفها موضوعات ثقافية دالّة. بمعنى آخر، فكلّ شيء وكل ظاهرة قابلة لأن تتحوّل إلى علامة، والتحوّل إلى علامة يعني الدخول في سياق ونسق هذه السيرورة بوصفها سيرورة يتفاعل فيها التوليد بالتأويل فالعلامة شيء تفيد معرفته معرفة شيء آخر. إن هذه المعرفة المضافة (…) تدل على أن الانتقال من نسق لآخر أو من تأويل لآخر يكسب العلامة تحديدات أكثر اتساعا سواء كان ذلك على مستوى التقرير أو على مستوى الإيحاء.[29] ففي هذا المنظور، يصبح كل نسق باعتباره هو الآخر علامة، بناء سميائيا قابلا بدوره لتأويل آخر، هذه السلسة من التأويلات، هي مجرد احتمال سميوزيسي لا يمكن أن يتحقّق إلاّ ضمن سياق ثقافي محدّد أو ضمن كون سميائي مخصوص بعينه؛ «فالسميوزيس – بصورة مفترضة – لامتناهية، إلاّ أن أهدافنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسة غير المحدّدة من الإمكانات. فمع السيرورة السميوزيسية ينصبّ اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون خطابي محدد»[30]. بمعنى آخر إن هذه السيرورة تنتهي في مرحلة ما إلى إنتاج معرفة متعلّقة بمضمون العلامة أرقى وأكثر تطورا من تلك التي كانت في البداية. إلاّ أن لهذا التطور والثراء التأويلي أو النسق المنمذج الثانوي صلة بهوية العلامة وبأصولها الأولى أو بنسقها المنمذج الأولي.
إن بناء السيرورة التأويلية سيظل من، هذه الزاوية، محكوما باستراتيجية التحولات المشتملة على مجموعة من الإمكانات الدلالية التي تتوقف ضرورة عند نقطة دلالية محددة يفرضها بناء التأويل نفسه. وتشتمل هذه الاستراتيجية على متوالية من الاختيارات التأويلية الخاضعة لمبدأ التوقعية. بمعنى آخر، إن هذه الإمكانات الدلالية قابلة لمبدأ التحقق داخل النص، وهو تحقق لا يمكنه أن يكون إلاّ من طبيعة جزئية.
فالمؤول وحده قادر على انتقاء وتحقيق إمكانات وتغييب أخرى – مؤقتا – وذلك بهدف خلق أكوان سميائية، تجعل من عمليات الانتقاء التأويلي موجّها حقيقيا لبناء النص وأكوانه الدلالية.
بهذا المعنى يمكن اعتبار النص العنصر الأول أو الوحدة الأساسية للثقافة والنص هنا في أبعاده السميائية لا يشمل الرسائل اللغوية بل يمتدّ لأي حامل لمعنى نصّي متكامل، إذ ينطبق على احتفال أو على عمل فني جميل أو على قطعة موسيقية.
هوامش الدراسة
[1] – Juri, Lotman. The semiotics of culture and the concept of a text. Soviet Psychology 26. 1988.p. 52.
[2] – Ibidem.
[3] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture.. P.78.
[4] -Ibid. P.79.
[5] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture. Op. Cit. P.79.
[6] -Ibid. P.79/80.
[7] – Juri, Lotman, The Structure of the Artistic Text . Op. Cit. p. 23.
[8]– Juri, Lotman, The Structure of the Artistic Text . Translated by Ronald Vroon. Ann Arbor: University of Michigan Press.p. 79.
[9]– Ibid. p. 132.
[10]– Juri, Lotman, 2009. Culture and Explosion. (Translated by Wilma Clark. Ed. by Marina Grishakova.) Berlin: Mouton de Gruyter.p. 147.
[11]– ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.81.
[12]– Juri, Lotman, 2009. Culture and Explosion. Op. Cit. p. 15.
[13]– ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.84.
[14]– Ibidem.
[15]– Ibidem.
[16] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.85.
[17] – Ibidem.
[18] – Ibidem.
[19] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.86.
[20] – Ibidem.
[21]– Juri, Lotman, 2009. Culture and Explosion Op. Cit, p. 77.
[22]-Juri, Lotman, and Uspensky, B. A. 1978. On the semiotic mechanism of culture. Op. Cit, p. 218.
[23]– ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture. ; Op. Cit; P.86.
[24]– Juri, Lotman 1977b. “Problems in the Typology of Culture.” In Soviet Semiotics: An Anthology, edited by Daniel Lucid, 213–21. Baltimore: Johns Hopkins University Press, p.214.
[25]– Ibid, p.216.
[26]–Umberto, Eco. LECTOR IN FABULA, Ou la coopération interprétative dans les textes narratifs, Traduit de l`italien par MYRIEM BOUZAHER, ED, Grasset & Fasquelle, 1985, P: 32.
[27]– Umberto, Eco. LECTOR IN FABULA, Op. Cit, P: 68/70.
[28] –Greimas. Algirdas Julien. Du Sens; ed. Seuil ; Paris 1970 ; P: 160.
[29]–Umberto, Eco. les Limites De L’interprétation; traduit de l’italien par; Myriem Bouzaher. ; Grasset; 1990, P:371.
[30]– Umberto, Eco. les Limites De L’interprétation; Op. Cit. p. 371.