آخر الإدراجات

النص آلية لتوليد المعنى

النص آلية لتوليد المعنى

  1.  النص الفني: طبيعته ووظائفه وأنساقه

أوضح لوتمان أن للنص وظيفتين أساسيتين: وظيفة تواصلية تتبدىّ في نقل النص لخبر أو معلومة ما، ووظيفة إبداعية تتبدّى في توليده لمعلومات جديدة. وتمتلك هذه الوظيفة قوة كبيرة على إحداث تشويش يطال النص مما يعرقل العملية التواصلية ويزيد من غموض النص وصعوبة توقعاته. وعلى الرغم من هذا فقد اعتبر لوتمان أن عدم القدرة على التوقع داخل الفن والثقافة يعدّ وظيفة جوهرية للنسق، كما أن التشويش الذي يلحق النص هو شرط ضروري لتوليد المعنى.  وللتدليل على هذا فقد مثّل يوري لوتمان بأعمال الباحث الرياضي البارز أندريه كولموغوروف، في اشتغاله على النص الشعري وقياسه لحجم الطاقة والشُّحنة الدلالية التي يمكن أن تسند للكلمة الشعرية داخل القصيدة في أي لغة ما ممثِّلا لها بالصيغة التالية (  H). بحيث إن H = h1+ h 2. ويتم التمثيل للقدرة الدلالية للغة أو قدرتها كذلك على نقل أو بثّ معلومات ذات مغزى داخل نصّ ما بواسطة الرمز h1. بينما يمثل الرمز h 2 مرونة اللغة أو ترادفها، ويعبّر عن إمكانات متعددة  لنقل المحتوى اللغوي نفسه بطرق متعددة وبآليات مختلفة وعندها تكون h 2 هي مصدر اللغة الشعرية. ولقد أوضح كولموغوروف أن الآلة والإنسان كلاهما يوّلدان معلومات لكن بطريقة مختلفة جوهريا، لأن الآلة لا تقوم بذلك إلاّ بناء على قاعدة معطيات تستند لخوارزمات عاجزة عن إنتاج قصائد شعرية. بمعنى آخر كل اللغات الاصطناعية المستخدمة في العلوم الدقيقة والتي ينتفي فيها إمكان توظيف الخيال والاستعارة وآليات الترادف… تكون فيها نسبة h 2 = 0 (h 2 مساوية للصفر) وهذه النسبة لا تؤهلها لأن تكون مادة للشعر.[1] فالخطاب الشعري يقتضي جملة من القواعد والتحديدات تفترضها بنية القصيدة مثل القافية والإيقاع والمعايير المعجمية والأسلوبية. «فعندما يدخل النص الفني في الوقت نفسه مع العديد من البنيات الخارج نصية التي تتمفصل وتتقاطع معه، وأن كل عنصر من عناصر النص يدخل بدوره في العديد من البنيات النصية الداخلية، فإن العمل الفني يصبح ناقلا للدلالة في صورها التبادلية الخلاّقة والاستثنائية.»[2] ومع ذلك، فإن قيمة النص الفني لا تقاس بحمولته الإخبارية أو بحجم المعلومات الواردة فيه أو بعدم القدرة على التوقّع. لقد ذكرنا سلفا أن النص الذي يمكن التنبؤ به، هو نص لا جدوى منه على الإطلاق. لكن قد يبدو العكس صحيحا: فالنص الذي لا يمكن التنبؤ به على الإطلاق يمكن بالمقابل أن يفقد قيمته؛ ويفقد نصّيته. ويمكن للمتلقي أن يعتبره هامشيا جدا أو حتى لا يعترف به كنص على الإطلاق. وبشكل عام  فإن النص الفني هو ذاك النص الذي يغيب فيه التوقع بشكل أكثر بكثير من النص اللاّ فني  غير المتعارف عليه، ولكن في بعض النصوص الفنية يمكن أن تكون القدرة على التنبؤ ذات قيمة عالية (على سبيل المثال في الأسطورة). إجمالا، لا توجد معايير “رياضية” للبرهنة على القيمة النصية، وعدم قدرة النص على التنبؤ أو التوقّع ما هو إلا واحد فقط من العوامل التي قد تؤثر عليه.

ويعدّ الفن عند لوتمان وسيلة تواصلية هامّة، فهو يربط بين المرسل والمتلقي (في بعض السياقات  يمكن الجمع بين الوظيفتين في شخص واحد، كما هو الحال في حالة المرء الذي يتحدث مع نفسه فإنه يمكن أن يكون متكلما ومستمعا في الوقت نفسه، وهذا لا يغيّر من الأمر شيئا.) فهل هذا يعطينا الحق في تعريف الفن والنظر إليه بوصفه لغة منظمة بطريقة محددة؟

ويمكن تعريف كل نسق غايته النهائية هي إقامة تواصل بين شخصين أو أكثر على أنه لغة. إن الادّعاء المشترك الذي يقضي بأن تكون اللغة وسيلة تواصلية داخل المجتمع البشري ليس بالضبط أمرا ملزِما، لسببين وهما:

  1. أن التواصل اللساني بين الإنسان والآلة أو كما نرى اليوم بين الآلات نفسها لم يعد اليوم إشكالية نظرية، بل واقعا أو حقيقة تكنولوجية.
  2. إن وجود أشكال وصيغ معينة من التواصل اللساني بين الحيوانات جعلنا نتوقف عن إثارة أسئلة من هذا القبيل. [3]

بناء على هذا التصور، فإن مصطلح لغة لا ينطبق فقط على اللغة العربية أو الفرنسية أو الروسية أو الإنجليزية، كما لا ينطبق أيضا على الأنساق الاصطناعية التي أنتجتها مختلف العلوم، والأنساق المستعملة لوصف مجموعات معينة من الظواهر، بل إنه ينطبق أيضا على العادات والطقوس والتجارة والمفاهيم الدينية. وبمعنى آخر، يمكننا أن نتكلم عن “لغة” المسرح والسينما والرسم والموسيقى والفن التشكيلي، بوصفها لغة منظمة بطريقة معينة.

وبمجرّد ما أن نعتبر الفن ونحدّده بوصفه لغة، فإننا نسير على المنوال نفسه لنُعرب ونشير إلى الآراء المحددة لبنيته. فكل لغة تستعمل علامات دالّة على معجمها وعلى قواعد تربط بين هذه العلامات وعلى بنية هرمية تراعي التسلسل بين مختلف عناصرها. [4]

   ويسمح لنا طرح المشكلة بهذه الطريقة بالاقتراب من الفن من منظورين مختلفين:

  1.  يسمح لنا المنظور الأول بأن نحدد الخصائص المشتركة بين جميع اللغات، وبعدها نحاول وصف تلك الخصائص في ظل الأحكام والشروط العامة لنظرية أنساق العلامات.
  2. ويسمح لنا المنظور الثاني، بناء على الوصف الأول، أن نحدد ما هو متأصل في الفن بوصفه لغة خاصة، وما يميّز الفن عن الأنساق الأخرى.

ويشغل الفن داخل الأنساق السميائية حيّزا هاما ووضعا اعتباريا استثنائيا. ففي منظور الثقافة الشعبية يعدّ الفن دائما مرادفا للثقافة نفسها، وكأن باقي الأشكال التعبيرية الأخرى الدالّة على النشاط والفاعلية الإنسانية ليست أشكالا ثقافية. وبالإضافة لذلك فالفن يشكل خاصية كونية تتميز بها جميع الثقافات، وقد شكّلت وظيفته الجوهرية أحد القضايا الأساسية التي انطلق منها لوتمان وجعلها مركز أعماله السميائية كما كان في مؤلفاته: محاضرات في الشعرية البنيوية[5] وبنية النص الفني[6] وتحليل والنص الشعري.[7]

  • النص الفني والأنساق المنمذجة الأولية والثانوية

لقد انطلق لوتمان في أعماله السالفة من إشكال فلسفي قديم حول العلاقة بين الفن والحياة مفترضا أن الفن يشكل آلية وأداة معرفية وإدراكية. والعلاقة بين الفن والحياة هي علاقة قائمة على الاختلاف وليس على التشابه والتماثل. فالفن بآلياته الخاصة قادر على إدراك الحياة عبر إعادة خلق واقع جديد، ومن هنا يمكننا التحدّث عن الازدواجية الأساسية التي تميّز العمل الفني: فهو يشكل، جزءا من الحقيقة المادية وموضوعا وواصفا لها في الوقت نفسه. وهذه الازدواجية هي ما يجعل من الفن نسقا مُنَمْذِجاً.  

إن للرسالة الفنية، حسب لوتمان، خصائص تميّزها على إنتاج وخلق نماذج فنية لبعض الظواهر الملموسة، ولها القدرة على صياغة الكون في مقولاته العامة، لذا فإن دراسة اللغة الفنية للأعمال الفنية لا تمنحنا معيارا فرديا للتواصل الجمالي فحسب، ولكنها تعيد إنتاج نموذج عن الكون في خطوطه وتفاصيله الكبرى.

فالنّمذجة هي الخاصية الجوهرية لكل سميوزيس، وجوهر كل نظام أو نسق سميائي. فاللغة الفنية كما سلف، تعيد إنتاج صورة عامة عن العالم. وبذلك تكون للفن القدرة على إضافة طبقات أو مستويات دلالية أخرى لأي نسق سميائي. ففي الفن يصبح التشويش خاصية بنيوية ملازمة له تؤثث مجمل علاقاته. وكل اختلال أو تشوه فيه يتّخذ معنى بنيويا، فالعناصر الجديدة في الفن  لا تلغي أو تمحو المعاني القديمة ولكنها تدخل في علاقات دلالية معها؛ «فالإنزياحات التي تمسّ تنظيمه البنيوي لا تخلو من دلالة بل إنها تساهم في منح هذا العمل الفني كافة تحققاته»[8]، فالتمثال الملقى على العشب مثلا ينتج علاقة جديدة بين الرّخام والعشب وهو ما يعطي فرصة ميلاد دلالات جديدة.[9] هذه الدلالات الجديدة هي ما يصطلح لوتمان على تسميتها بالأنساق المُنمذِجة الثانوية.

    إن التشابه بين مفاهيم اللغة الثقافية والعلامة السميائية يسمح لنا داخل سميائيات الثقافة بأن نميز بين مقاربين نموذجيتين:[10]

  1.  ترتكز المقاربة الأولى على التمييز بين الأنساق المنمذجة الأولية والأنساق المنمذجة الثانوية.
  2. فالأنساق المنمذجة الأولى، هي اللغة باعتبارها الوسيلة الأولى للتفكير والتواصل الإنساني.
  3. أما الأنساق المنمذجة الثانوية، فهي اللغة باعتبارها خزانا حافظا للتجربة الجماعية الرمزية والثقافية العاكسة والدالة على إبداعيتها وإنتاجيتها. ومن خصائص هذه الأنساق أنها:
  4. ترتكز في بناء أنساقها الأكثر تعقيدا مثل: الأسطورة والآداب والشعر وكل أنواع فنون الحكي على اللغة الطبيعية،
  5. · تشكّل لغة واصفة مثل: نقد النصوص وتاريخ الفن والموسيقى والرقص… وتعدّ هذه اللغة مؤوِّلا حقيقيا لكل الأنساق السميائية غير اللفظية.
  6. ترتكز على اللغة الطبيعية باعتبارها نموذجا أوليا مثل: لغة السينما ولغة الرقص ولغة الموسيقى ولغة الفن…
  7. أما المقاربة الثانية، فإنها ترتكز على التمييز بين اللغات الثقافية الثابتة واللغات الثقافية الدينامية
  8. اللغات الثقافية الثابتة: هي اللغات المتصلة مثل: لغات الفضاء الأيقوني واللغات غير اللفظية، واللغات المنفصلة مثل: اللغات اللفظية،
  9. اللغات الثقافية المتحركة، فهي اللغات التي تتخصص في الثقافة وتدمج الثقافة.

فإذا كان النسق المنمذج الأولي، في تعريف لوتمان، هو اللغة الطبيعية منظورا إليها في أبعادها المباشرة، فإن الأنساق المنمذجة الثانوية هي باقي الأنساق الدالة (مثل الأسطورة والفولكلور والطقوس والآداب والفنون الجميلة…) ويقصد لوتمان بالثانوية كون هذه الأنساق تستخدم اللغة الطبيعية بوصفها أداة أولية. وتعدّ اللغة الطبيعية بحكم بنيتها النسق الأقوى للتواصل بين أفراد الجماعة الإنسانية، إنها تمارس عل نفسياتهم تسلّطا قويا وعلى جوانب عديدة من حياتهم الاجتماعية. أما الأنساق المنمذجة الثانوية فهي تتشكل بناء على ما تكون عليه اللغة، إنها لصيقة ببنية هذه اللغة. 

وبناء على هذا التمييز بين الأنساق المنمذجة باعتبارها ثارة أولية وأخرى ثانوية ثمّ ثابتة ومتحركة، فإنه لا يمكننا تصور مفهوم للدلالة عند لوتمان خارج مدار الكون السميائي باعتباره سيرورة. فهو مفهوم يتضمن من جهة أولى، القدرة على إنتاج الدلالة استنادا إلى معطيات مباشرة هي ما يشكل الوجود الأصلي للعلامة وجوهرها الحقيقي (النسق المنمذج الأولي). كما يتضمن من جهة ثانية، لحظات إضافية تنزاح عن التعيين لتعانق سيرورة التأويل بوصفها أداة ضمنية داخل أي سيرورة لإنتاج الدلالة وتداولها (النسق المنمذج الثانوي.) «إن هذا الاستقطاب هو ما أطلقنا عليه الوجود الأصلي للظاهرة، لكي نميزه عن العناصر الإضافية التي تعلق بالفعل ضمن حالات ثقافية بعينها. وهذا ما ينعكس على فعل الوصف والتعيين وكل الأنشطة المنتجة للمعاني المباشرة، فنحن نميز بين اللحظة الخاصة بالتعيين المرجعي “المحايد”، وبين اللحظة المنتجة لدلالات إضافية تستجيب لحاجات لا علاقة لها بالجوانب النفعية والغريزية المباشرة. وعلى هذا الأساس وجب الفصل بين مستوى دلالي يكتفي بإنتاج وحدات قيمية من طبيعة تعيينية، وبين مستوى ثان يشير إلى قيم مضافة تدرج الفعل الإنساني ضمن وضع ثقافي خاص.»[11]

يظهر من خلال ذلك، أن السيرورة الدلالية عند لوتمان لا تكترث ولا يقف عند حدود تعيين الأشياء في دلالاتها المباشرة المنطوية على ذاتها، بل هي انخراط في صلب الرمزي والثقافي انطلاقا من معانٍ إضافية لها القدرة على التدليل والإحالة على قيم دلالية ممكنة خالقة لسياقاتها الخاصة. إننا في النسق المنمذج الأولي نكون، أمام مدلول أولي لا يتجاوز حدود تعيين تجربة ما كما يقدمها الكون السميائي من خلال مظاهرها المباشرة والتقريرية. فهو يشكل لحظة داخل سيرورة تجعلنا نتعرف على بدايتها كما هي. ففي هذه اللحظة نكون أمام حالة أولية للإدراك لا تتجاوز حدود تعيين تجربة ما من خلال مظهرها المباشر. ويقصد بالتدليل في هذا المستوى العودة والرجوع بالعناصر إلى أصلها الأول، وإرجاع المعنى إلى أصله يتمّ عبر الاعتراف ضمنا بتعدد المعاني الأصلية والمشتقة وكذا باحتماليتها والبحث داخلها عما يخلق انسجاما جديدا للواقعة.

ويعدّ مفهوم الأنساق المنمذجة الثانوية من المفاهيم التي سادت كثيرا في تحليلات أعمال مدرسة تارتو- موسكو السميائية وهي من المفاهيم الأكثر جدلا في السميائيات. إذ اعتبر طوماس سيبووك بأن الفرق الجوهري بين الأنساق المنمذجة الأولى والأنساق المنمذجة الثانوية قد تمت الإشارة إليه من لدن أندريه زاليزنياك وفياشيسلاف إيفانوف وفلاديمير طوبوروف في دراستهم «حول التصنيف البنيوي للأنساق المنمذجة» غير أن هذا الدراسة، حسب طوماس سيبووك دائما،ما تستخدم المصطلحات المعنية، بل قدمت تصنيفا لأنظمة وأنساق العلامات وفقا لدرجة التجريد وقدرتها على النمذجة.[12]

إن التمييز الشهير الذي أقامه لوتمان وزملاؤه بين النسق المنمذج الأولي والنسق المنمذج الثانوي هو تمييز موروث عن مدرسة تارتو السميائية وهو تمييز وضع الباحثين في مجال السميائيات الثقافية بين مؤيّد ملتزم به وبين من سعى لتعديله أو دحضه[13]. وقد حاول كل أصحاب المواقف السالفة الردّ على قضية ما إذا كانت اللغة نظاما أو نسقا جوهريا للنّمذجة أم لا؟ وإذا ثبت العكس ولم يكن الأمر كذلك فما هو البديل المتاح أمامهم؟

لقد لاحظ سيبووك ودانيسي  مؤخرا: «أن اللغة، بحكم تعريفها، هي نسق نمذجة ثانوي وهو نسق متّسق ومتماسك يزود البشر بالموارد اللازمة لتوسيع الأشكال الأولية وفتحها على اللامتناهي […] ومن منظور السميائيات الإحيائية (بيوسميوتيك)، فإن سنن اللغة في تماسكه هو المسؤول عن توفير موارد النّمذجة وهو القادر على تحويل “الوجود المعيش الملموس” إلى “خطط نشطة”.»[14]  وحسب سيبووك ودانيسي دائما، فإن العلاقة الثلاثية بين الأنساق المنمذجة هي وحدها الكفيلة بجعلنا نتحدث عن سيرورة دلالية أكثر تطورا، وقد أشارا إليها على النحو الآتي:

  1. النسق المنمذج الأولي وهو النسق الذي يهيئ الطفل الرضيع للانخراط في أشكال منمذجة محسوسة
  2. النسق المنمذج الثانوي وهو النسق الذي يجبر الطفل لاحقا، على الانخراط في أشكال منمذجة موسّعة وأكثر تطورا.
  3. النسق المنمذج الثالث وهو النسق الذي يسمح فيه للطفل الناضج بالانخراط في أشكال وصيغ منمذجة أكثر تجريدا وهي أشكال قائمة على ما هو رمزي.[15]  

وبناء على ما سبق، إذا كانت اللغة في تحديد لوتمان عبارة عن أنساق منمذجة قائمة على الوظيفة التواصلية، فإنه لا يمكننا أن نتصور الثقافة إلا باعتبارها نسقا عاما يتكون من أنساق مختلفة ومتعددة تصوغ بدورها العالم على نحو خاص وخاضع لقوانين وإكراهات ثقافية خاصة. وتملك هذه الأنساق القدرة على برمجة السلوك الإنساني ضمن هذه الثقافة أو غيرها، فكلما اختارت الذات نسقا ثقافيا إلاّ واختارت معه نمذجة خاصة للعالم، وطريقة في التواصل مع هذا العالم، لأن قوانين التواصل حسب أمبرتو إيكو هي قوانين الثقافة.[16] «وعلاقة الثقافة باللغة الطبيعية مسألة في غاية الأهمية، ففي المنشورات الأولى لمدرسة طارطو السميائية حُددت الظواهر الثقافية على أنها أنساق منمذجة ثانوية – وهو ما يوحي بطبيعتها الاشتقاقية في علاقتها باللغة الطبيعية – بنسبها الطبيعي. وثمّة دراسات كثيرة نهلت من فرضيات سابّير – وورف وقد فحصت تأثير اللغة في مختلف مظاهر الثقافة الإنسانية، وحتى عهد قريب أكّد بينفينيست أن اللغات الطبيعية هي وحدها القادرة على أداء دور لغوي واصف وبفضل هذا الدور فإن للغات الطبيعية مكانا متميزا في نسق التواصل الإنساني. ويغلو بينفينيست – في الدراسة نفسها- فيعتبر اللغات الطبيعية وحدها أنساقا سميائية خالصة، فيما باقي النماذج الثقافية الأخرى فهي دلالية، ليس لها أداؤها السميائي أو السميوزيسي الخاص، إلاّ بقدر ما تستعيره من كون اللغات الطبيعية. ومهما يكن من أمر فإن من الضروري أن نقابل بين الأولي والثانوي من الأنساق المشكّلة ( فإنه من المستحيل – دون هذا التقابل- تمييز أيّ منهما بخصائصه الذاتية)، فيغدو مهما التوكيد هنا – اعتدادا بالوظيفة التاريخية الفعلية- على أن اللغات ملازمة للثقافة ويستحيل الفصل بينهما. فليس هناك من لغة يمكن أن تحيا بغير أن يكون لها، في جوهرها، بنية اللغة الطبيعية.»[17]

إن الدور الأساسي للثقافة حسب لوتمان، يتبدّى في التنظيم البنيوي للعالم، إنها هي المولِّدة لهذه البنيات بفعل دينامياتها وهي بهذه الصيغة إنما تخلق كونا اجتماعيا محيطا بالأفراد. هذا الكون الاجتماعي مثله مثل الكون الحيوي هو الذي يجعل الحياة ممكنة لا من حيث هي حياة عضوية بيولوجية، بل من حيث هي حياة اجتماعية وثقافية؛ «بيد أن الثقافة لكي تنهض بهذه المهمة وتضطلع بها، لا بدّ أن تتضمّن في ذاتها آلية بناء دائمة وهذا ما تقوم به اللغة الطبيعية. »[18] 

هوامش الدراسة


[1] – Yuri M. Lotman. The Structure of the Artistic Text. P.26-31.                    

[2]– Yuri M. Lotman. The Structure of the Artistic Text. Op. Cit. P.300.        

[3]– Yuri M. Lotman. The Structure of the Artistic Text. Op. Cit. P.7.            

[4]– Ibid. P.7/8.                                                                                                     

[5] – Lectures on Structural Poetics 1964.                                                             

[6] – The Structure of the Artistic Text 1970.                                                      

[7] – Analysis of the Poetic Text .1972.                                                                

[8]– Yuri M. Lotman. Analysis of the Poetic Text. Edited and translated by D. Barton Johnson. Ann Arbor: Ardis. 1976a. p.120.

[9]-Yuri M. Lotman. The Structure of the Artistic Text. Op. Cit P.75.               

[10]-Silvi Salupere, Peeter Torop, Kalevi Kull, BEGINNINGS OF THE          SEMIOTICS OF CULTURE. Op. Cit. p. 26.

[11] – سعيد بنگراد: السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها ، ص:175

[12]– Sebeok, Thomas A. 1988. “In What Sense Is Language a ‘Primary Modeling

System’?” In Semiotics of Culture: Proceedings of the 25th Symposium of the Tartu-Moscow School of Semiotics, Imatra, Finland, 27th–29th July, 1987, p. 67.

[13] – للمزيد أكثر في التدليل على هذه المواقف ينظر أعمال:

      Sebeok, Thomas A. (ed.) 1975. The Tell-Tale Sign: A Survey of Semiotics. Lisse: Peter De Ridder.

— In what sense is language a ‘primary modeling system’? In: Sebeok, Thomas A., A Sign Is Just a Sign. Bloomington: Indiana University Press, 1991. 49– 58.

—An Introduction to Semiotics. London: Pinter. 1994.                                   

Sebeok, Thomas A.; Danesi, Marcel 2000. The Forms of Meaning: Modeling Systems Theory and Semiotic Analysis. Berlin: Mouton de Gruyter.

[14]– Sebeok, Thomas A.; Danesi, Marcel 2000. The Forms of Meaning: Modeling Systems Theory and Semiotic Analysis. Berlin: Mouton de Gruyter. p. 108.

[15]-Sebeok, Thomas A; Danesi, Marcel 2000. The Forms of Meaning: Modeling Systems Theory and Semiotic Analysis. Op. Cit. p. 10.

[16]–  Eco. Umberto. La Structure Absente, ED, Mercure de France, Paris,  1972. p. 30.

[17]– Juri, Lotman, M.; Uspensky, B. A. On the semiotic mechanism of culture.  Op. Cit, p.212.

[18]– Ibid; p.213.                                                                                                    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.