- التاريخ والذاكرة
ما هي أهداف العلم التاريخي؟ وهل التاريخ علم؟ هذه الأسئلة هي التي انطلق منها يوري لوتمان، وكثيرا ما أثيرت هذه الأسئلة من قبله وكانت الإجابات عنها عديدة ومختلفة. والمؤرخ الذي لم يعط تنظيرا ويركّز وينكبُّ على البحث في المادة الأولية فقط غالبا ما يكون محتوى أفكاره هو إعادة إنتاج أو تمثيل للماضي حسب صيغة رانكي المتمثلة في: “كيف حدث ما حدث في الماضي.”
إن فكرة إعادة تمثيل الماضي التاريخي هذه تنطوي على توضيح مجموعة من الحقائق وإقامة صلات بينها. وتحدد الوقائع عن طريق جمع الوثائق ومقارنتها واعتماد مقاربة أو نهج نقدي تاريخي حاسم إزاءها. وتعني المقاربة النقدية للوثائق اختبار الأصلية منها، بتحليل واستقراء نتائجها دون الاعتماد على المغرض منها. إن جزءا هاما من العمل التمهيدي للمؤرخ هو أن يكون قادرا على قراءة وثيقة، من خلال الإجراءات النصية في أبعادها المنطقية والبديهية، للوصول إلى فهم لمعانيها التاريخية.[1] وإن الإشكال في إعادة تمثيل هذا الماضي لا يبدأ مع التاريخ، بل مع الذاكرة لما لهذه الأخيرة من امتياز في التعرف مباشرة وبشكل حدسي على الصور التي ظلت منطبعة وراسخة في أذهاننا باعتبارها علامة على ماضينا، خاصة حينما يتعلق الأمر بماض معطوب ومثخن بالجراح، مع كل الصعوبات المرتبطة بنسبية وعدم صدقية هذه الذاكرة، وهنا يلتقي تصور يوري لوتمان مع تصور بول ريكور الذي أسّس في كتابة المعلمة الذاكرة والتاريخ والنسيان[2] لتحليل فلسفي عميق مشكّل من فينومينولوجيا الذاكرة وابستمولوجيا التاريخ وهيرمينوسيا[3] النسيان. واعتزم في هذا التحليل تعميق رؤيته التي بدأها في كتاباته السابقة، خاصة كتابيه الزمن والسرد[4] والذات عينها وكأنها آخر،[5] قصد استكشاف القضايا المتصلة بنوعية العلاقات بين الأقطاب الثلاثة (الذاكرة والتاريخ والنسيان) للوصول إلى الماضي أو طريقة تمثل هذا الماضي في التاريخ. وقد عبر عن هذا بلغز الصورة الحاضرة التي تدّعي تقديم موضوع غائب.[6] يقول ريكور: في تصوري لا يبدأ المشكل مع التاريخ، بل مع الذاكرة التي تربطها بالتاريخ علاقات متصلة. وإذا كنت أدافع هنا عن أسبقية مسألة التمثل المرتبط بالذكرى بالمقارنة مع تمثل الماضي في التاريخ، فإنني لا أقف(…) إلى جانب محاميي الذاكرة ضد محاميي التاريخ. فالأمر لا يهمني في شيء. يكمن السبب في أن مشكل التمثل الذي يشكل همّا للمؤرخ، يتموضع منذ مدة على مستوى الذاكرة، بل ويستقي منها حلا محدودا وعارضا يصعب إسقاطه على التاريخ.[7]
وإذا كانت مهمة الذاكرة حفظ الماضي، فإن مهمة التاريخ هي إعادة بناء ما حفظته الذاكرة، ولما كانت الذاكرة عبارة عن صور، فإن التاريخ هو الصيغة اللفظية المعبرة عنها، وعليه فالذاكرة تشكل خزانا تتجمع فيه كل الصور العقلية والفعلية والماضية والحاضرة، فهي عصب التاريخ الذي يحضر فيه الغياب. وإن لغز الحضور والغياب يضعنا أمام مفارقة الذاكرة والتخييل. وإن الفرق الجوهري بين الذاكرة والتخييل وإن اتفقا في إشكالية حضور الغائب، إلا أن الذاكرة تتميز بكونها تحيل إلى مرجعية واقعية سابقة ضامنة لخصائص الماضي وفي هذا ضمان لاستمراريتها.[8]
إن هذا الاستقصاء للحقيقة هو الذي يميز الذاكرة كقوة معرفية.[9] فالذاكرة هي ذاكرة لشيء لم يعد بالضرورة، ولكن بعد أن كان، ولذلك فهي تشير إلى واقع مضى. غير أن تصوير واستحضار الذكرى الأولى يفترض إعادة بناء، صدقية الذاكرة من جهة، وضعفها وهشاشتها البنيوية من جهة أخرى. لذلك فإن غياب الصّدقية الناجم عن العلاقة بين غياب الشيء المتذكَّر وحضوره ممثَّلا هو ما يجعل الذاكرة عرضة لتعسّفات وسوء استعمالات متعددة.
وموازاة مع الذاكرة تُطرح المعرفة التاريخية، بوصفها موضوعا يثير إشكالا منهجيا يتعلق بالماضي الذي انقضى والتعامل معه في الوقت ذاته كموضوع للمعرفة؛ خاصة وأن لوتمان يسعى في تشييد هذه المعرفة على الآثار والوثائق الخاضعة للمساءلة والاستنطاق من طرف المؤرخ ويعتبر هذا موقفا موضوعيا وعملا منهجيا يجعل من الأثر التاريخي وثيقة دالة. يقول بول ريكور: «إن إشكال العلاقة بين الذاكرة والتاريخ ودورهما في تمثل الماضي يبقى مفتوحا. فالفضل يعود للذاكرة في الاعتراف بالماضي كشيء موجود ومنعدم في الآن نفسه؛ أما التاريخ فيحظى بالقدرة على توسيع النظرة في المكان وفي الزمان، كما يحظى بقوة النقد عندما يتعلق الأمر بنظام الشهادة والتفسير والفهم، وبالتحكم البلاغي للنص، بل الأكثر من هذا، فهو يحظى بإقرار الإنصاف بالنظر إلى الادعاءات المتنافسة للذاكرات المجروحة وأحيانا الذاكرات التي لا تبالي بمأساة الآخرين. فبين اعتراف وتعهّد الذاكرة بالإخلاص وميثاق الحقيقة في التاريخ يبقى نظام الأولوية متذبذبا يصعب حسمه والتقرير بشأنه. فالقارئ، وبداخله المواطن، هو المؤهل الوحيد لحسم النقاش.»[10]
- الثقافة سَننٌ ذاكِري جمعي
يعدّ البحث في الذاكرة من منظور السميائيات الثقافية من القضايا الأكثر إثارة لدى يوري لوتمان وقد ضمّن كتابة «كون الذهن» تصوراته حول الذاكرة في بعديها الفردي والجمعي ولما لها من دور وظيفي مركزي في كل سيرورة تفكيرية. ولا تتبدّى مركزيتها فقط بالنسبة للذات الإنسانية بمفردها، بل أيضا بالنسبة للنصوص والثقافات باعتبارها بنيات سميائية مفكّرة ودالّة على هذه الذاكرة. وانطلاقا من هذه القاعدة الأساسية، يمكننا تعريف الذاكرة ببساطة، على أنها القدرة على الحفاظ وإعادة إنتاج أخبار ما. غير أن الفصل الثالث من هذا الكتاب يتضمن إشارات أكثر تعقيدا مفادها أن الذاكرة تعدّ حوارا بين الماضي والحاضر وليست مجرّد آلية لنقل أخبار أو معلومات مضت. فالثقافة تتيح لكل فرد من أفراد المجتمع التعرّف على تجارب المعاصرين والأسلاف وتضعها رهن إشارته، لانتقاء ما هو إيجابي أو تجنب ما هو سلبي. إن ما تقوم به الثقافة داخل المجتمع هو نفسه ما تقوم به الذاكرة للفرد. إنها آلية جماعية لتخزين المعلومات. «إن الذاكرة هي أشبه ما تكون بمولِّد يعيد إنتاج الماضي من جديد. أي إنها قادرة على تحويل كل السيرورات التي نقلها إلينا الفكر من الماضي… إن العلاقة المتبادلة بين الذاكرة الثقافية والتأمّل الذاتي هي علاقة تشبه الحوار المستمرّ والدائم: فالنصوص المنحدرة أو المعبّرة عن فترات زمنية سالفة يمكن ضمّها إلى الثقافة فتتفاعل مع الآليات المعاصرة، وتولِّد صورة للماضي التاريخي الذي نقلته الثقافة، وتصبح شريكا مساويا في الحوار، لها القدرة في التأثير على الحاضر.»[11] بهذا المعنى تكون الذاكرة صورة عن الماضي أعيد إنتاجها في الحاضر لتعطيه شكلا جديدا. إنها أيضا حصيلة حوار بين هذا الماضي والحاضر. وعلى هذا النحو فإنها تتضمّن وتنطوي على ترجمة ودمج النصوص الماضية والموروثة عن الأسلاف في النسق الثقافي الحاضر. فالنصوص الآتية من الماضي والموجودة في الحاضرة تتحوّل عبر هذه الترجمة. وحيث إن الثقافة هي مجموعة من النصوص، فإن الترجمة تصبح آلية أولية وأساسية للوعي ومنتجة لدلالات وذكريات ثقافية جديدة.[12]
ولا يمكن وصف نصّية الثقافة دون مفهوم الذاكرة الجمعية، التي تشتغل قبل كل شيء بمثابة آلية حافظة للذات ونشر ثقافتها في الوقت نفسه. وترتكز الذاكرة الجمعية على النصوص؛ خاصة تلك النصوص التي ورثناها مبكرا والتي تبني وتشكل مخيالنا وتشيد فضاءنا السميائي مثل القصص والحكايات العائلية والمقررات الدراسية والجامعية والقصص والرسوم المتحركة التي تبثها القنوات الإعلامية وكل النصوص التي تشكل ثقافتنا وتبني مخيالنا الفردي. فقي مقال «مفهوم الذاكرة من منظور ثقافي» يعرف لوتمان الثقافة على أنها فكر جماعي وذاكرة جماعية، أو آلية تحافظ على الرسائل وتحولها، في الوقت نفسه، لإنتاج رسائل جديدة.[13] فالذاكرة الثقافية هي ذاكرة عابرة للزمن تخترق آفاقه و لا تقف عند حدود زمن بعينه، فهي تتجاوز النظر إلى الزمن على أنه ماض وحاضر ومستقبل. إنها تلعب دورا حيويا في إنتاج وخلق نصوص جديدة. «فالماضي» في الثقافة لم يمضِ ولم يمرّ حقا، لكنه «دائما حاضر» وبالتالي، فإن الثقافة من حيث المبدأ لا يمكنها تكرار الماضي ولكنها تسعى دائما لإعادة خلقه إنتاجه.[14]
ولقد وُضعت الأنساق السميائية خصّيصا للحفاظ على المعلومات بطريقة غريبة جدا: يبدو أن الذاكرة ليست خزّانا أو مستودعا ثابتا لا يتحرّك، بل جهازا لنمذجة فاعلة متجددة باستمرار.[15] وهذا هو السبب في عدم تخزين الدلالات في الذاكرة الثقافية بشكل ثابت، كما هو الحال بالنسبة للكتب في المكتبة، إنها تغير مظهرها باستمرار فالدلالة هي دائما وافد جديد، وهي بمثابة الخلفية النشطة لفك سنن وتأويل النصوص، أي إن الذكريات لا تسترجع وإنما يعاد إنتاجها كل مرة بشكل مغاير.
وكما هو الحال بالنسبة للذاكرة الفردية، فإن آليات التذكّر وحفظ الذاكرة الجمعية تختلف حسب وظيفة كل ذاكرة: فالكتابة (وكل تقنيات التسجيل السمعية والبصرية) تعدّ شكلا من أشكال التذكّر وواحدة من أهم وسائل الحفظ على الأحداث الهامة. في حين يركز التقليد الشفهي على النصوص غير المكتوبة. إن الكتابة بما هي تسجيل وتثبيت للنصوص، تركز على حفظ الأحداث بما فيها الأحداث الشاذة وغير العادية لتحقيق تراكم تاريخي، بينما يركز التقليد الشفهي على الحفاظ المعلومة المعمول بها في النظام القائم.[16] إن الكتابة والتقليد الشفهي مرتبطان باللغة الطبيعية، ولكن بصرف النظر عن ذلك، هناك العديد من الأنساق الأخرى التي تلعب دورا مهما في ديناميات الثقافة (وخاصة في عصر الوسائط الرقمية التي أصبحت تتجه أكثر فأكثر نحو النصوص السمعية البصرية). ومن الملاحظ أيضا أن الأنترنيت يسعى بطرق عديدة لإذابة الحدود بين التقاليد الكتابية والشفهية واضعا العديد من الأسئلة حول معايير ثبات النص.
وإننا نفهم الثقافة -بحسب ما أشار إليه لوتمان وأوسبنسكي- على أنها الذاكرة غير الموروثة للجماعة.[17] ويعني هذا أن الذاكرة الثقافية ظاهرة اجتماعية، ولا تأتي في صورة «باقة غير مرئية» لها أنساقها وأبنيتها الداخلية المحددة سلفًا كما يزعم أنصار المذهب الطبيعي، وهي مسألة تكتسب أهمية كبرى في المناقشات التي تدور حول أصل اللغة والثقافة. وفي هذا السياق يشدّد لوتمان على مسالة التنوع التاريخي للثقافات، وعدم إمكانية التنبؤ بمسار تطورها. فكَمَا أن أيّ لغة تتكون من العديد من اللهجات، والمصطلحات المتخصصة، والأساليب الفردية، فإن الثقافة تتكون من لهجات «ذاكراتية» كثيرة، تجمع كل منها بين مجموعة فردية أو ثقافة ثانوية معينة، وهي مرتبة بطريقة مختلفة؛ إذ يستطيع المرء التمييز بين النصوص المنتمية إلى الثقافة الراقية وتلك المنتمية ،مثلا، إلى ثقافة المراهقين، بل ثقافة عائلة بعينها. وقد تكون الحدود الفاصلة بين المجموعات الثقافية غير واضحة ومتاهية فيكون الناتج نصوصًا لا يفهمها سوى عيّنة خاصة، وحين تخرج تلك النصوص خارج حدود الجماعة التي أنتجتها فإنها تحتاج إلى مواد مكملة لها (تعليقات، معجم، كتب مدرسية، ترجمة، …) وإلى نصوص واصفة وشارحة تجعلها في متناول جماعة أخرى.[18]
وبوجه عام، فإن كل لحظة من لحظات تأويل النصوص تفترض سلفًا أن لكلٍّ من المخاطَب والمخاطِب ذاكرة مشتركة، وهو ما يؤثر في عملية التلقي تأثيرًا كبيرًا، فكلما قلَّت مساحة الذاكرة المشتركة بينهما ازدادت عملية فك شفرة النصوص اكتسابًا للطابع الإبداعي. إن النص الذي يقع في يد المتلقي الصحيح يتم فهمه بسرعة وسهولة؛ إذ يتطلب جهدًا تأويليا أقلّ من ذلك الذي يتلقاه متلقٍّ غير مؤهل.[19]
ويؤكد لوتمان في مقاله «النص وبنية من يتلقَّونه» أن النص ليس وحده هو الذي يتغير أثناء عملية التلقي، بل المتلقي نفسه يخضع للعملية نفسها، ويحدث هذا لأنّ أيّ نصّ يفترض طبيعة معينة للمتلقي. إن الكاتب والمتلقين يملكون جميعًا صورة مسبقة عن النص، وهي صورة لا تتفق بالضرورة مع صورة الكاتب الحقيقي والمتلقين الفعليين، بل إن النص يعدّ نقطة بينية يتقاطع فيها كلّ من الكاتب والقارئ، الأمر الذي يجعله «نصًا يؤدي وظائف مختلفة، لا نصًا ثابتًا له خصائص محددة.»[20] ويعني هذا أيضًا كونه نصًا ديناميًا فهو، دون شكّ، موجود في سياق ما (يتكون من الزمن، أو السياق التاريخي، وتقاليد كتابة النصوص)، وللكاتب أيضًا سياقه الخاص به، والمكوّن من وضعه الاعتباري والإيديولوجي وهناك سياق القارئ، المكون من كفايته وأيديولوجيته؛ وعليه فإن القارئ لا يفك سنن النص في الواقع، وإنما يدخل في علاقة حوارية معه، ويعيد النص تشكيله أيضًا؛ ممّا يجعل من فعل القراءة بناء متواصلا.[21]
ويعدّ الطابع الآلي (الأتوماتيكي) حسب يوري لوتمان أحد سمات الذاكرة الفردية التي تعكسها الذاكرة الجمعية أيضًا، فالكل يعرف أنه إذا ما تكرر فعل ما عددًا من المرات فإنه يصبح بشكل آلي تلقائيًا، فمثلا حين نريد تعلّم الرقص أو المبارزة فإننا نبدأ بتعلم حركات عدة، ونركز جيدًا في تفاصيلها محاولين فهمها، ومع الوقت وبالتكرار نؤدي تلك الحركات جميعها دون تفكير فيها.[22] ينطبق هذا على الذاكرة غير الحركية أيضًا، فلكي نفهم شيئًا ما فإننا نقوم بتكييف المعلومات الجديدة طبقًا لما لدينا سلفًا من معلومات تصير نشطة مع الوقت. الفارق هو أننا بدلاً من القيام بسلسلة من الحركات فإننا نقيم علاقة بين نصوص وعلامات تنتمي إلى أنساق سميائية مختلفة؛ أي إننا حين نتلقى نصًا جيدًا فإننا نربطه بمعارفنا الشخصية وقدرتنا الثقافية، وكلما تشابهت النصوص التي نتلقاها ازدادت استجابتنا لها بطريقة آلية، فنفهم تلك النصوص بصورة أسرع، بل يمكننا التنبؤ بمحتواها بسهولة، ومن أمثلة هذا مقابلتنا لشخص ما.[23] إن المرحلة الأولى من المقابلة تكون ثابتة أقرب إلى الطقوس؛ لأن الرسائل الممكنة في موقف بداية اللقاء محدودة وذات بناء محدد سلفًا، يندر أن يخضع لأي تغير. وإذن فإن الفهم (أو توليد المعني) عملية نقيم فيها علاقة بين العناصر الجديدة والعناصر المعروفة سلفًا من عناصر ذاكرتنا الثقافية، ولنذكر قول لوتمان: «الفهم دائمًا ترجمة لشيء غير معروف إلى لغة المفاهيم المعروفة» وبما أن المعنى يعتمد اعتمادًا كبيرًا ومباشرًا على مبدأ الاختلاف، فإنه كلما ازدادت سرعة إقامة علاقة بين العناصر صارت المعاني أكثر آلية، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى الشكلانيين الذين وصفوا علاقة الأطراف– الوسط مستخدمين مصطلح الأوتوماتيكية، فالوسط يشغله ما يتكرر كثيرًا، أي الأكثر أوتوماتيكية والأكثر توقعًا، بينما الأطراف يشغلها الأقل أوتوماتيكية. والفهم والتذكر لا يقومان على إضافة شيء إلى ما هو مخزون أو محفوظ، ولكنهما يقومان على تفاعل معقد بين ذلك الشيء الجديد وما هو محفوظ في الذاكرة؛ أي إنه يقوم على إحداث اضطراب ثم استعادة التوازن.[24]
إن الثقافة ذاكرة تفصح عن نفسها انطلاقا مما هو متعارف عليه من قواعد وأعراف تمليها سلطة اللسان باعتباره مؤسسة اجتماعية بالمعنى السوسيري (فيرديناند دي سوسير). ولا ينفي هذا التعريف إمكان الحديث عن طابع فردي للثقافة، عندما توكل إلى هذا الفرد مهمة تمثيل الجماعة (مفرد بصيغة الجمع).
ويمكننا أن نميز داخل الثقافة بين ما هو عام ومشترك بين سائر الإنسانية وبين ما هو خاص بجماعة ما أو بزمن ما. إن الثقافة كما أشار لوتمان وأوسبنسكي ذاكرة أو سجلّ ذاكري لتجربة الجماعة، ولأن الثقافة ذاكرة فإنها ترتبط ضرورة بماضي التجربة التاريخية.[25] وفي إعادة تمثيل هذا الماضي. والمشكل في تصور بول ريكور لا يبدأ مع التاريخ، بل مع الذاكرة التي تربطها بالتاريخ علاقات متصلة، كما أن مشكل التمثيل هذا والذي يشكل همّا للمؤرخ، يتموضع منذ مدة على مستوى الذاكرة، بل ويستقي منها حلا محدودا وعارضا يصعب إسقاطه على التاريخ.[26]
إن تعريف الثقافة بأنها ذاكرة يثير السؤال حول نسق القواعد السميائية التي تتحول بها تجربة الحياة الإنسانية إلى ثقافة: هل يمكن النظر لهذه القواعد على أنها برنامج؟ إن كينونة الثقافة ذاتها تتضمن بناء نسق أو مجموعة من القواعد لترجمة الخبرة الإنسانية إلى نص. ولكي يوضع أي حدث تاريخي في حقبته وفي صنفه المميز فإنه ينبغي أن يعترف به قبل كل شيء كوجود مباشر تفصح عنه اللغة وللغة القدرة كذلك على تحويله لذاكرة مما يعني اعتباره عنصرا أساسيا وعنصرا ثقافيا في نص الذاكرة.[27] وتثير الثقافة، باعتبارها آلية لتنظيم وإدراك المعارف وحفظها في وعي الجماعة، مسألة الامتداد والاستمرارية التاريخية. إن لهذه الاستمرارية وجهين:
- استمرارية النصوص الدالة على الذاكرة الجمعية،
- استمرارية السنن الدّال على هذه الذاكرة. وفي حالات مخصوصة بعينها يُحتمل ألا يرتبط أحد هذين الوجهين بالآخر ارتباطا مباشرا.[28]
حيث إن كل ثقافة قادرة على خلق نموذجها الخاص وهو النموذج الذي يعطيها امتدادها الوجودي واستمراريتها التاريخية. إن الوظيفة الأساسية للثقافة تتبدّى في التنظيم المبنيِن للعالم المحيط بالكائن الإنساني، وهو ما جعل لوتمان يقرّ بأن الثقافة قادرة على توليد وإنتاج بنيات ذات تنظيم ذاتي (نصوص وسنن أو شفراتأو شفراتأاااااااصةتسس)، تشكل حول الإنسان كونا سميائيا واجتماعيا مع ما تقتضيه وتشترطه الذاكرة الجمعية، التي تجعل الحياة ممكنة بعيدا عن كلّ ما هو بيولوجي ونفعي، إذن، فأفراد جماعة بشرية ما، داخل نسق ثقافي محدد، يمتلكون خطاطة للعالم، وبنية علاقات تربطهم بالمحيط المصاغ سميائيا، تشكل اللغة الجهاز التنميطي والمنمذج الأقوى فيها.[29] واللغة باعتبارها نواة تعدّ مركز النسق الثقافي وآلية تنظيمه، ومصدر البنينة السلّمية، للعناصر المكونة للنسق والمحفّز على امتلاك مزيد من المعارف النوعية. ومن أهمّ وظائفها إقصاء بعض النصوص لتثمين وتشجيع مأسسة نصوص أخرى. وتمنح أعضاء المجموعة معنى حدسيا قادرا على صياغة العالم وتنظيم تحولاته. إنها تمكننا أيضا من موارد سميائية قصد الترجمة والتواصل مع النصوص الأجنبية. وتعمل من خلال قدرتها المنمذجة على تحقيق الفهم الذاتي والوصف الذاتي، المؤثرين في اشتغال النسق، هذا لا يعني أن الثقافة تتشكل من لغة واحدة، إنها مجموعة من اللغات، ويعد التعدد اللغوي من الناحية النظرية، من أهم سمات التعقيد في الثقافة، وهو ما يجعل من الترجمة آلية بنيوية لتنشيطه من جهة، ومن التسنين آلية لخلق التواصل بين مكونات النسق من جهة أخرى، فالترجمة إذن، تضمن استمرارية النسق، لكن يجب التشديد على أن الآثار والنصوص الثقافية ليست هي الثقافة، بل التمظهر المادي للنموذج الثقافي[30]. فالمعنى المنتَج لا يصبح محققا ومرئيا إلاّ في علاقته بالنسق الإنتاجي الذي ولّده، أي في علاقته مع ما يوجد خارجه ؛ أي العناصر التي شكلتها شروط الإنتاج والتداول والتعرّف.[31] استنادا إلى هذا لا يمكن للنص أبدا أن يكون معزولا، فهو يستمد معناه من العلاقات المباشرة مع نصوص أخرى خارجة عنه (نص الثقافة ونص التاريخ)، إنه لا يمكن أن يكون سوى تحقق داخل نوع ما. والثقافة في مجموعها يمكن النظر إليها باعتبارها نصا إلاّ أنه نص مركّب يتفرع بشكل هرمي إلى “نصوص داخل نصوص” يتداخل بعضها مع الآخر بصورة متشابكة(…) ومع مرور الوقت فقد أصبح مفهوم النص باعتباره فضاء دلاليا يتمتع بتنظيم متجانس، وقد تمّ تعزيزه وتكملته بعناصر عرضية خارجية وآتية من نصوص أخرى على حدّ تعبير لوتمان.
الذاكرة مصفاة
- بين التذكّر والنسيان
ماذا يجب علينا أن نتذكره حينما نريد ذلك؟ يدفعنا هذا السؤال إلى استحضار النقاش الفلسفي التقليدي الذي يتعارض فيه الواقع والتخييل، وهو نقاش يفترض منا مسبقا القول بمدى ادعاء الذاكرة في إخلاصها للماضي، وارتباطها بما هو وجداني وبما هو عاطفي. فعندما نتذكر، هل نتذكر هذا الإحساس المرهف أو نتذكر الموضوع الواقعي الناجم عنه؟
يميز بول ريكور بعد أفلاطون وأرسطو، بين نوعين من الذاكرة:
- الذاكرة الحساسة والحيوية ويقصد بها الذاكرة التي تؤثر علينا دون تدخل إرادة ما،
- الذاكرة الفاعلة واليقظة. إنها ذاكرة تمارس بحثا فعالا وإراديا موجها ضد النسيان، ويعد هذا أحد الوظائف الأساسية للذاكرة، التي تحيلنا مباشرة على فكرة واجب الذاكرة وهو واجب محاربة النسيان.[32]
ومن الخصائص الحاسمة للذاكرة الجماعية والتي تُظهر مفارقة استثنائية هي خاصية النسيان. فكما أن عدم الفهم له نفس القدر من الأهمية بالنسبة للتواصل، كذلك الشأن بالنسبة الذاكرة الفردية، لا تستطيع أن تشتغل عادة دون نسيان الآليات، إن إمكانية نسيانها أمر بالغ الأهمية أيضا للتطور الديناميكي للثقافة: ذلك أن الثقافة تبعد باستمرار بعض النصوص. إنه تاريخ إبادة النصوص وتدميرها.[33]
إن تاريخ تطهير ومحق النصوص من محفوظات ومخزون واحتياطات الذاكرة الجمعية يطّرد سيره جنبا إلى جنب مع تاريخ إبداعات وإنشاء نصوص جديدة. فكل حركة فنية جديدة تلغي سلطة النصوص التي اعتدت بها في العهود السابقة عن طريق نقلها إلى صنف النصوص غير المدوّنة أو إلى اللاّ نصوص، أي إلى نصوص من مستوى مختلِف أو عن طريق تدميرها ومحقها بشكل ملموس. إن الثقافة في جوهرها تقاوم النسيان وتقف ضده وتتغلّب عليه وذلك بتحويله إلى واحدة من آليات الذاكرة[34]. وبصرف النظر عن نسيان النصوص (أحيانا نتيجة لأسباب “طبيعية”، وأحيانا عن عمد، أو من خلال الرقابة والقيود المختلفة المفروضة على إنتاج النص وتوزيعه)، فإن سيرورة تذكر واستعادة النصوص المنسية تشكل أيضا جزءا من سيرورة تذكرية ثقافية. وإننا نعي جيدا أن الذاكرة والثقافة هما سبيلين مختلفين لإدراك الحقيقة نفسها، رغم أنهما مفهومين ملتحمين بشكل واضح ولكن هناك مفهوم ثالث يربط بينها، يتعلق الأمر بمفهوم الهوية . إن مسألة الهوية هي مسألة معقدة للغاية: فالبنيوية تعلمنا أن الهوية تعطى عن طريق عن العلاقة أو عن طريق التعارض داخل النسق. وستكون، إذا جاز التعبير، هوية، سلبية، حيث يكون المحور التفاضلي القائم على الاختلافات هو الناقل الأساسي لكل المعاني والقيم.
إن الذاكرة مثلها مثل الثقافة تعدّ نسقا. فنحن دائما نجسّد حضورنا ليس انطلاقا من ذاكرة معزولة، بل انطلاقا من نسق الذاكرة ولا أقصد بنسق الذاكرة نسقا منظما ثابتا ومنسجما، على العكس يتعلق الأمر دائما بنسق متحرك ومتناقض في غالب الأحيان ومتشذّر ومتمفصل إلى أنساق فرعية. إن الطبيعة النسقية للذاكرة لا تكمن في اتساقها وتجانسها، بل في طبيعتها العلاقية التي تربط بين مختلف عناصرها حسب الدرس البنيوي.[35] ويمكن لأنساق الذاكرة أن تظهر مستويات مختلفة من التجانس والانسجام ولكنها دائما هي أنساق علاقية، حيث كل عنصر يأخذ معناه انطلاقا من العلاقة التي تربطه ببقية العناصر الأخرى داخل النسق. لهذا السبب سيكون من الأهمية بمكان البحث عن مواضع التوتّر والتعارض والصراع داخل النسق الذاكري، مستحضرين أن الذاكرة هي دائما، وبطبيعتها، تعدّ موضعا للصراع والاختلافات. إن الذاكرات، خاصة تلك التي تعاني من الصدمات الجمعية، تمتلك طابعا نزاعيا، إنها دائما في حالة تنافس ومواجهة: كل ذاكرة تتضمّن ذاكرة مضادة، كما أن كل سرد يجسّد سرده المضاد. وهنا تبدو أهمية السميائيات وفائدتها لأنها تعلّمنا من خلال التحليل بأن كل عنصر داخل البرنامج السردي لا يتحدّد إلا من خلال ما يعارضه. وداخل كل برنامج سردي هناك برنامج مضاد. إن الذاكرة مثلها مثل الثقافة تعدّ نسقا متحركا تخضع لتغييرات وإعادة كتابة مستمرة. فإذا كانت ظاهرة التحول أو النقل داخل الثقافة مرتبطة بالترجمة، فإنها داخل الذاكرة مرتبطة بالتوتّر الجدلي بين الذاكرة والنسيان. فالنسيان هو المظهر الآخر للذاكرة، إنه عنصرها الجوهري والمكوّن لها، رغم أنه لا يعترف له دائما بهذا. ففي كثير من الخطابات التي اشتغلت على الذاكرة وخاصة الخطاب الطبي وطبّ الأعصاب على التحديد، يتميّز النسيان بدوره العاملي المضاد للذّات: فالنسيان هو عدوّ الذاكرة وخصمها، وهو ما يعارض قدرتنا على التذكّر. ولكن فإمكاننا أن نقلب هذا المنظور السردي فنعتبرَ النسيان بدلا من ذلك هو العامل المساعد للذاكرة: فبدون نسيان شيء ما، فإننا لا نستطيع تذكّر أي شيء. وكما أشار بورخيس في كتابه «Funes el memorios» إن الذاكرة والنسيان هما مظهرين متكاملين لعمل الذاكرة باعتباره شكلا مستمرا لإعادة تذكر ما تم نسيانه وخلق أشكال جديدة من النسيان.[36]
تشتغل الذاكرة دائما عبر مصافي مختلفة ومتنوعة، وهي مصافي ثقافية ثم سياسية وإيديولوجية، تنتقي محتويات وتستبعد أو تقوم بإقصاء أخرى. وأعتقد أن التأمّل الذي وضعه أمبرتو إيكو حول الذاكرة باعتبارها مصفاة، يحتاج اليوم إلى تعميق ليسائل بشكل أكثر عمقا عن ما ينظّم نسق التصفية أو الغربلة، أي النسق المسؤول عن هذه التصفية، ما هو نسق القيم الأساسية التي تعرّف وتحدّد هذه التصفية؟ من يؤسس هذه المصافي؟ أين تكمن فاعلية قوى أنساقها ودورها في المراقبة الاجتماعية؟ كيف يتم تثبيتها وتجميدها؟ وكيف تتغيّر؟[37]
إن التفكير بعمق في ميكانيزمات هذه التصفية يسمح لنا بفهم أفضل لبعض ميكانيزمات خلفيات النسق الثقافي والقيم التي يروّجها هذا النسق. فإذا كانت الذاكرة تشتغل بوصفها مصفاة فإنها سوف لن تكون تسجيلا أو تدوينا بسيطا ونقلا مسترسلا للأحداث، بل إنها تملك دائما طابعا ترميميا أو إعادة بناء: فالمصافي لا تنتقي سوى بعض العناصر ذات الطبيعة المستقبلية، واعتماد وجهة نظر من بين وجهات أخرى. إن الذاكرة ليست تسجيلا أكثر أو أقلّ وفاء، ولكنها إعادة كتابة. لقد تمّ تشييدها بواسطة وعبر النصوص التي جعلوها تتكلم وعبر العديد من عمليات إعادة الكتابة التي تحوّل باستمرار الحدود الثابتة بين ما يبدو أنه يستحق التذكّر وبين ما هو خامد يقتصر على النسيان. داخل هذه السيرورة يحدث شيئا استثنائيا: فكل سرد جديد يعتمد على التذكّر ينضاف للقديم، فيصبح جزءا بنيويا من الحدث نفسه وهو ما يجعلنا نستنتج أن الذاكرة تشتغل بطريقة غير خطّية أي عبر انزياحات تربط بين الواقعة والتذكّر.[38]
- ذاكرة النص
تتكون كل ذاكرة ثقافية من سلسلة لا متناهية من النصوص، لكن كما نعلم فإن هذه النصوص ليست محفوظة في الذاكرة كالكتب في المكتبة، إنها تلعب دور الحلقات التي تربط النصوص ببعضها البعض، كما تربط النصوص بسياقات غير سياقاتها؛ ولهذا فإن الوظيفة التذكيرية للنّص لا تقل أهمية عن وظيفته الإبداعية والمعلوماتية، وهذه الوظيفة تؤكد السمة التناصية للنصوص، فكل نصّ مليء بالمعنى ومرتبط بنصوص أخرى، ليس بالضرورة عن طريق كونه مرجعية مباشرة لتلك النصوص، ولكن بوصفه جزءا من الفضاء المعنوي للنص.
يقول لوتمان: نسمي «ذاكرة النص»كلّ السياقات التي يكتسب فيها سياق معين تأويله باعتباره جزءا لا يتجزأ من هذه السياقات. وهذا الفضاء المعنوي الذي يخلقه النص حول نفسه يدخل في علاقة مع الذاكرة الثقافية (أو التقاليد)، التي تكونت سلفًا داخل وعي المتلقين. وهكذا يكتسب النص حياة سميائية جديدة… إذ لم تعد «هاملت» مثلا مجرد مسرحية لـ شكسبير، بل هي أيضًا ذاكرة لجميع تأويلات المسرحية، وهي أيضًا ذاكرة لكل الأحداث التاريخية التي حدثت خارج النص واستعار منها شكسبير أحداث مسرحيته،[39] ولا عجب في أن يستخدم لوتمان «هاملت» عند حديثه عن المسرحيات التي تحمل عبء الذاكرة الثقافية، فهذا المتاع الثقيل لا يعيق ديمومة النص عبر الزمن، بل على العكس يسهّل حفظ النص في الثقافة. لقد صارت «هاملت» جزءًا لا يتجزأ من ثقافات عديدة، وقلّما تجد إنسانًا في أوروبا، بل ربما في العالم أجمع، لم يسمع قط عن أمير الدنمارك الشهير. إن خلود «هاملت» في الذاكرة الثقافية يعود إلى عوامل عدة، أهمها تلك العوامل التي بمقتضاها يتمدّد النص إلى مجالات سميائية جديدة، ويختزل إلى أنواع مختلفة من العلامات. وأحد العوامل هو الانفصال المبكر بين «هاملت» المسرحية وهاملت الشخصية المحورية في المسرحية.[40] لقد صارت شخصية البطل نمطًا شائعًا، حتى إنها انفصلت عن السياق الذي ظهرت فيه للمرة الأولى، وهو ما سمح بولادة ظاهرة «الهاملتيزم Hamletism» (النزعة الهامليتية) التي تتلخص في الميل إلى اعتبار «هاملت» رمزًا لسمات فلسفية واجتماعية ونفسية وسياسية، بوصفه يمثل نوعًا معينًا من السلوك. وعادة ما يقال إن هذا التمثيل ليس بالضرورة ذا علاقة بالمسرحية الحقيقية، فالرمز يكتسب حياته الخاصة كنمط عالمي نفسي واجتماعي من أنماط الشخصية الأدبية… [41]
إن ظاهرة «هاملت» جزء من ما يسميه لوتمان «الطبقة الأسطورية» من طبقات الثقافة، فالأسطورة فراغ تشغله أسماء أعلام وأنواع مألوفة تصير جزءًا مهمّا من مفرداتنا الثقافية؛ بحيث إننا نصنف، طبقا لها، أحداثا واقعية أخرى ذات معنى. وهكذا صار هاملت الشخصية يلعب دور العلامة التقليدية التي يمكن أن يتغير معناها بتغير الزمن، والتي هي عرضة لتغير دائم. وكما في أي رمز فإن العلاقة بين الدال والمدلول هنا أيضا تعاقدية وتواضعية؛ أي لا توجد علاقة داخلية أصيلة تربطهما، غير أن الرمز هنا ليس اعتباطيا بل مبرَّرٌ ثقافيا، والمعنى الرمزي من الممكن أن يتغير بتغير الزمن كما أسلفنا، لكن ثمة ثوابت تبقى في كل مرة؛ حيث تنبع تلك الثوابت من صيغة أساسية تنتظم، بشكل أو بآخر، البنية الثابتة لظاهرة «هاملت»، وهي أن هاملت بطل وحيد وتراجيدي في صراع مع العالم و/ أو مع نفسه، ثم يجد نفسه في موقف اختيار، سواء كانت الظروف أو نفسه هي من وضعته في ذلك الموقف، كما أنه حين يتم استخدام هاملت كرمز فإنه −تبعًا للسياق– يصير محمّلاً بمعانٍ من حقول دلالية مختلفة، مثل حقل الاغتراب، والمعارضة، والشك، والكآبة، والقمع… [42] وعلى مدار أربعة قرون حاولت تفسيرات عديدة حل لغز شخصية هاملت المزعوم والجدل الذي تثيره أفعاله، فارتدى هاملت أقنعة كثيرة في الأزمنة المختلفة، فمرة نجده رقيقًا كئيبًا، أو مفكرًا لا يقر عزمه ولا يهدأ باله، ومرة وحشيًا خاضعًا لانفعالاته ومشاعره المتطرفة، أو نراه مشغولا بالانتقام، وسطحيًا، وتارة مفكرًا حرًا عقلانيًا، ومرة لا يهتم بالفنون أو الآداب، بل متهتك، ومرة نراه مسيحًا، أو روحًا حرة، أو تحقّقا لليأس وتجسيدا له… [43]
المهم هنا هو أن «هاملت» الظاهرة و«هاملت» المسرحية لا يمكن الفصل بينهما تمامًا، أو القول بأن أحدهما هو النص عينه، والآخر هو النوع النفسي والثقافي، بل على العكس فهما مرتبطان، فالمكانة السامية للنص تعتمد أساسًا على ظاهرة «هاملت»، وكل معنى رمزي جديد ينسب إلى «هاملت» يعني أن ذاكرتنا عن النص لا تزال نشطة، وهو ما يؤثر حتمًا، في إنتاج وترجمة وتفسير النص، وهكذا تصير ظاهرة «هاملت» واحدة من الوسائل التي يتمدد النص من خلالها عبر الزمن. إنها آلية قوية خارج نصية، وهي آلية تشكل إدراكنا للنص، وترسم الإطار المرجعي الذي تحدث داخله سيرورة الإنتاج والتلقي.[44]
إن أشياء كثيرة قد تلعب دور وسيلة التذكير وتؤمن للنص مكانا في الذاكرة الثقافية، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج النص. من ذلك مثلا الكلمات المأثورة المأخوذة من النص، والمواقف المألوفة فيه، والنكات التي تشير إليه، والمعارضات أو المحاكاة الساخرة له.[45]
هوامش الدراسة
[1]– Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture. p.217.
[2]-Paul, Ricœur, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Edition du Seuil, Paris, 2000.
[3] – مقابل ترجمي لمفهوم Herméneutique وقد أخذت هذه الترجمة عن الأستاذ فريد الزاهي بدلا من مفهوم هرمينوطيقا.
[4]– Paul, Ricœur, Temps et Récit; T1.T2.T3 Edition du Seuil. Paris,1983/1985.
Paul, Ricœur, Soi – même comme un Autre, Seuil, Paris ,1990. -2
[6]-Paul, Ricœur, Histoire et Vérité, Edition du Seuil, Paris, 2001. p.2.
[7]-Paul, Ricœur, (L’écriture de l’histoire et la représentation du passé), Annales Histoire, Sciences sociales, juillet-août 2000, p.73.
[8]-Paul, Ricœur, Histoire et Vérité, Op. Cit, p.26.
[9]-Paul, Ricœur, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Edition du Seuil, Paris, 2000.
p.66.
[10] – Paul, Ricœur, L’écriture de l’histoire et la représentation du passé, Op. Cit. p.747.
[11]– Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture ; Op. Cit. p.272.
[12]– Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture ; Op. Cit, p.126.
[13] – للمزيد ينظر أعمال لوتمان:
Lotman 1979; Lotman and Uspensky 1978; Lotman and Uspensky 1985.
[14]– ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.100.
[15]– Yuri. M. Lotman “Culture as Collective Intellect and the Problems of Artificial Intelligence.” In Dramatic Structure: Poetic and Cognitive Semantics, Russian Poetics in Translation 6, edited by Lawrence O’Toole and Ann Shukman, 84–96. Oxford: Holdan Books.1979.P.95.
[16]– Yuri M. Lotman. Universe of the Mind. A Semiotic Theory of Culture; Op. Cit. p.246.
[17]– Yuri. M. Lotman, B. A. Uspensky, On the Semiotic Mechanism of Culture. Op. Cit. p. 213.
[18] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P.101.
[19] – Ibid. P.101.
[20] – Juri, Lotman, 2009. Culture and Explosion. Op. Cit.p.115.
[21] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P.101.
[22] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P.103.
[23] – Ibidem.
[24]– ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. p. 103.
[25]– Yuri. M. Lotman, B. A. Uspensky, On the Semiotic Mechanism of Culture . Op. Cit. p. 214.
[26]-Paul, Ricœur, L’écriture de l’histoire et la représentation du passé. Op. Cit, p.73.
[27]– Yuri. M. Lotman, B. A. Uspensky, On the Semiotic Mechanism of Culture. Op. Cit, p. 214.
[28]– Yuri. M. Lotman, B. A. Uspensky, On the Semiotic Mechanism of Culture. Op. Cit, p. 214.
[29]-José, Horacio ROSALES CUEVA, REPRESENTATIONS DE LA CULTURE DE SOI ET DE LA CULTURE DE L’AUTRE, Op. Cit. P.98.
[30]-José, Horacio ROSALES CUEVA, REPRESENTATIONS DE LA CULTURE DE SOI ET DE LA CULTURE DE L’AUTRE, Op. Cit P.98/99.
[31]–Eliseo Veron . “Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir” in Communications 28; 1978; P :12.
[32] – Paul , Ricoeur, Histoire et Vérité, Op. Cit. p. 37.
[33] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture Op. Cit. P.102.
[34]– Yuri. M. Lotman, B. A. Uspensky, On the Semiotic Mechanism of Culture Op. Cit. p. 216.
[35]-Patrizia Violi, Mémoire et traumatisme: préliminaires théoriques et méthodologiques; IV Congrès international, Mémoire et trauma dans la culture marocaine. Op. Cit.
[36] -Patrizia Violi, Mémoire et traumatisme : préliminaires théoriques et méthodologiques; IV Congrès international, Mémoire et trauma dans la culture marocaine. Op. Cit.
[37]-Patrizia Violi, Mémoire et traumatisme : préliminaires théoriques et méthodologiques; IV Congrès international, Mémoire et trauma dans la culture marocaine. Op. Cit.
[38]-Ibidem.
[39] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture. Op. Cit. P.104.
[40] – Ibid. P.105.
[41] – ALEKSEI, SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P.105.
[42] – ALEKSEI, SEMENENKO The Texture of Culture. Op. Cit. P. 105/106.
[43] – Ibidem.
[44] – ALEKSEI, SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P. 106.
[45] – ALEKSEI, SEMENENKO The Texture of Culture . Op. Cit. P.109.