التأويل والتعدد الدلالي
إذا كان المؤول عند بورس، متصلا بفكرة القانون والضرورة والدلالة وبفكرة التوسط الإلزامي بين الماثول وموضوعه، وإذا كان يشتغل بوصفه قاعدة عامة يتم بواسطتها إنتاج الدلالة وتداولها، فإننا نستطيع النظر إليه بوصفه سننا يكثف داخله كل الأشكال والممارسات العامة للسلوك الإنساني؛ سواء كان هذا السلوك لغويا أو اجتماعيا… وهي أشكال يتم تحيينها وتجسيدها في ممارسات خاصة ومحددة ومؤطَّرة في الزمن والمكان.
إن هذا الصنف من التأويل يؤكد حقيقة واحدة مفادها أن النشاط الإنساني قادر على إنتاج وتداول سلسلة من القواعد والضرورات التي تسمح بالتواصل وخلق حوار بين الذوات الإنسانية. وهذا الإنتاج يتم وفق وجود مناطق متعددة تعكس ثراء التجربة الإنسانية، وتنوع هذه المناطق هو الذي يفسر تعدد التأويلات وغناها. بمعنى آخر، إن السلوك الإنساني منظورا إليه في أبعاده وتجلياته المباشرة لا يمكن أن يحدد أو ينتج أي شيء، ولا يمكن أن يدلّ من تلقاء ذاته. إنه كذلك عندما تحتضنه الثقافة وتثريه بزخم هائل من الإيحاءات والقيم المضافة. حينها فقط يمكن الحديث عن سلوك سميائي أو سلوك تأويلي، أي عن فعل يُستوعب داخل عوالم رمزية.
إن كل المعاني المرتبطة بهذا السلوك وهذا الفعل، لا يمكنها أن تكون أحادية ومحدّدة ومكتفية بذاتها، بل إنها معاني متعددة ومختلفة، وأحيانا غامضة. ويتمّ إجلاء هذا الغموض وخرق هذا المتّصِل انطلاقا من تمفصلات الدلالة بوصف هذه الأخيرة سيرورة لإنتاج المعنى، تعمل على تحويله من صيغته المادية العديمة الشكل، إلى أشكال متحقِّقة تُدرك ضمن وحدات سياقية متنوعة ومتعددة. وعلى هذا الأساس فإن الكشف عن العلاقات القائمة بين المعنى، بوصفه كتلة مضمونية متصلة وغامضة لا يحيل على أيّ شيء آخر سوى ذاته، وبين الدلالة بوصفها شكلا ورصدا وتقطيعا لكل أشكال وصيغ تحقق هذا المعنى وتجسيده في واقعة ما، هو السبيل الوحيد الذي يمكننا من خلاله الإمساك ببؤر التدليل ومداراته ومسالكه وكل صيغ التأويل التي لها صلة بهذا التدليل، «إن كل إنتاج للمعنى مرتبط بمادة مضمونية سابقة في الوجود على التحقق من جهة، ومرتبط من جهة ثانية بسيرورة معينة للتعرّف والإدراك. إن العمليتين معا تشكلان سيرورة التدليل، وفي غياب هذه السيرورة (السميوزيس) يستحيل الحديث عن بناء نصي، ولن تكون هذه السيرورة سوى الطريقة التي يتم بها تنظيم الوحدات المقتطعة من النسق الدلالي الشامل وفق استراتيجية محددة للآثار المعنوية المراد إنتاجها»[1].
فإدراك المعنى وإدراك شروط إنتاجه وأشكال تصريفه، يمرّ عبر الممارسة الدلالية سواء في أبعادها اللسانية أو غير اللسانية. لذلك لا ينفصل مفهوم التأويل عن التعدد والتنويع الدلاليين. لهذا فإن مقولة تعدد الدلالي تفترض نواة دلالية ثابتة وقارة، وهو ما يحيل على المعنى في أبعاده المباشرة والحرفية. لأن الضامن لصحة التأويل ومصداقيته، هو هذا الحدّ الأدنى المعنوي باعتباره القاسم المشترك الذي تتقاطع فيه كل الدلالات. لأن الجدل الدائر حول المعنى وتعدد الدلالات وحرية التأويل وطبيعة النص، وإجمالا حول طبيعة السميوزيس ينهض على هذا الاختيار الراسخ والمتمثل في الدفاع عن المعنى الحرفي؛ «من هنا كان الاستناد – نظريا على الأقل – إلى معنى أولي يعدّ قراءة بدئية في معطيات ظاهرة ما في انتظار فتح آفاق متنوعة أمام مستوى آخر من التدليل. فلكي يأتي قراء عديدون بدلالات متعددة ومتنوعة لنفس الواقعة، يجب أن يتفقوا في البداية على أن هذه الواقعة تحيل، في بعدها الظاهري المباشر على معنى أولي “لا يطعن فيه أحد”. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما أمكن الحديث عن تأويل وعن تعدد دلالي»[2].
إن الحديث عن هذا التأويل وعن هذا التعدد الدلالي لا يلغي الحد الأدنى المعنوي الذي يشكل أصلا وبداية لكل التحيينات والتحققات الدلالية داخل نص ما. كما أن أي تحقق ليس سوى إرغام يفرضه النص أو انتقاء لوضعيات تأويلية محددة. إن هذه الإرغامات التي يفرضها النص على مؤوليه تتصالح أو تتناقض مع الإرغامات التي تفرضها الوضعيات التي تنجز داخلها هذه التأويلات.
إن الحديث عن هذه الإرغامات والأصل المولِّد للدلالة هو ما يعطي للتأويل بعده الموضوعي.
الذاتي والموضوعي في التأويل
تنفرد وتتميز قراءة أي نص بالكيفية التي تشتغل بها المؤولات. إن هذه المؤولات – كما سبقت الإشارة لذلك – تتجاوز وبشكل أكثر دينامية كل ما تمدّنا به القراءة الإخبارية والتعيينية لنص ما. إن الأمر بكل بساطة، داخل المؤولات، لا يتعلّق بالبحث أو إيجاد موضوع جيد ومقبول فحسب، بل أيضا تحليل وإظهار السبل والوسائل الكفيلة بجعل النص يولّد وينتج حقائق وانفعالات ويحيِّن مفاهيم وقوانين وعادات… وكيف يستطيع التأليف كذلك بين مختلف هذه الأشياء.
تجعل هذه القراءة من المؤول محورا أساسيا. فهي قراءة تضاهي وتواجه، من جهة، كل ما يتعلَّق بالذاتية وكل الإحالات اللامتناهية للثقافة في شموليتها وإطلاقيتها وفي كل ما يشكل متّصلا غير واضح بذاته. وتواجه، من جهة أخرى، كل أحادية أو محدودية تتعلق أساسا بالإرغامات الموضوعية أثناء ممارسة فعل التأويل.
إن السميائيات البورسية، من هذه الزاوية، تحمل في ثناياها عناصر التنظيم والتأليف، وهي عناصر متصلة بالمنهجية الخاصة بقراءة أيّ نص، «فالمعنى هنا مبدأ للتنظيم، فلا يمكن الحديث عن العلامة إلا باعتبارها أداتنا الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة لتنظيم التجربة الإنسانية»[3]. وما ينظم هو نفسه ما يحكم التدليل ويساهم في تطوير وبلورة الفعل التأويلي المتعدد.
ويظل هذا الفعل أو الإجراء محكوما بأسنن وبأنساق تحدد للمعنى مجمل تحققاته وترسم له في الوقت نفسه كل إرغاماته. هذه الإرغامات تحصر وتحدّ من غلواء التجاوزات المغرقة في الذاتية. لذلك فالإرغامات التأويلية -كما سنرى- تشتغل داخل النص بوصفها صدّاً يحدد بصورة ظاهرة وصريحة المجالات أو السياقات المسموح بها أثناء قراءة هذا النص، «إن موضوعية المعنى قائمة على أساس أن النص يفرض وإن بشكل جزئي، قراءاته الممكنة. فهناك أولا المعطيات الدلالية التي يكشف عنها النص وهي التي تشكل الانطباع المرجعي المتولّد عنه (…) يضاف إلى ذلك أن النص يشتمل وإن من خلال انتمائه النوعي، على تعليمات تأويلية – واضحة أو غير واضحة – لا يمكن أبدا تجاهلها، وإلا تحول التأويل إلى مجرد إعادة كتابة للنص كتابة ناقصة»[4].
إن التأويل عند بورس أعطى الصورة الحقيقية لمفهوم الذاتية، وذلك بأن نظر إلى هذه الذاتية بوصفها المظهر والمكان المخصَّصين لشبكة منظمة من المؤسسات الاجتماعية القابلة للملاحظة والوصف الموضوعيين، «إن “الأنا” هي التي تتكلم، لكن ما تنتجه وما تقوله لا يمكن أن يكون ذاتيا؛ أي إن “الأنا” هي مكان العلامات وبالضبط هي مكان المؤولات وهو مكان ليس معزولا، على العكس إنه مكان يشكل حالة، وكل حالة هي حالة اجتماعية»[5].
وعندما يتعلّق الأمر بالمجتمع فإننا نضع نصب أعيننا مقولة العادة باعتبارها قانونا؛ أي باعتبارها مجموعة بشرية تعدّ ضمانة بيذاتية على مقولة الحقيقة كمعطى عرضي بلغة إيكو. إن فكرة المجموعة البشرية تشتغل باعتبارها مبدأ لا يأتي قبل السيرورة التأويلية، بل بعدها، وهو مبدأ يسمح لها بتجاوز كل التصنيفات أو القصديات الذاتية والفردية للمؤول الفرد، لأن التأويل ليس وليد بنية الذهن البشري ولكنه وليد الواقع الذي تشيده السميوزيس [6].
«إن المجموعة البشرية عندما تتفق على تأويل ما، فإنها تنتج مدلولا، إن لم يكن موضوعيا فهو بيذاتي (بين ذاتي)، وسيتم على أية حال، تفضيله على أي تأويل آخر لم يتم الحصول عليه نتيجة إجماع المجموعة البشرية عليه»[7].
وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تثيرها القضايا المتصلة بالمعنى سواء من لحظة انبثاقه من أصله إلى لحظات تلقيه وتأويله، فإن هذا المعنى يظل محكوما وموجها بواسطة أنساق وقواعد. هذه القواعد والأنساق هي ما يؤكد الأبعاد الموضوعية للمعنى. والموضوعية «لا تحيل بالتأكيد، على مادة مضمونية قارة وكلية مودعة داخل النص بشكل سابق على القراءة وعلى فعل التأويل. كما لا تحيل، بالتأكيد أيضا، على معنى واحد ووحيد يمنح النص ما يضمن له هويته الخاصة؛ كما لا يتعلق الأمر بغايات دلالية سابقة على فعل القراءة. إن المقصود بالموضوعية في حالة المعنى هو الاعتراف بوجود قيود يستدعيها تحقق لا يمكن أن يتم إلا في ارتباطه بأصل مولد له»[8].
إن هذه القيود، هي ما يجعل من المعنى معطى موضوعيا من جهة، وهي ما يجعله قادرا على خلق معرفة متطورة وجديدة من جهة أخرى لأن العلامة عند بورس لا توفِّر معرفة فحسب، بل نستطيع بواسطتها التعرّف على معارف جديدة، «إن العلامة في كل لحظة وافد جديد يوجد في عالم جديد»[9]، لذا فإن افتراض قواعد وأنساق وتسنينات لعالم المعنى، لا يعني القول إنه عالم قار وثابت. على العكس، إن الأمر يتعلق بالتعرف على الآليات البنيوية التي تحكم وتوجه تحولاته [10].
تضعنا هذه الأنساق والتسنينات أمام انتقاءات سياقية وأخرى قيمية قادرة على تحديد طبيعة الكون الدلالي للواقعة. وتجدر الإشارة إلى أن استراتيجية الانتقاء القيمي هاته تتحدد من خلال عمليتين:
«– تناظر أو تناظرات دلالية تشتغل كضبط ذاتي للكون الذي تحيل عليه الواقعة. فالانتقاء ليس تحديدا ذاتيا، بل هو إجراء يتم وفق استراتيجية تهدف إلى بناء كون دلالي منسجم وقابل للاشتغال من خلال حدوده الخاصة.
– العناصر المستعملة لتسييج الوضعية الإنسانية التي يتم تمثيلها داخل النص. فالإستراتيجية ليست اختيارا دلاليا، أي تحديدا مضمونيا، بل هي نمط في البناء. ولهذا لا يمكن الفصل بين البناء وبين الأداة البانية.
ويجب النظر إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها طريقة خاصة في تنظيم المعنى. وتنظيم المعنى في طبقات هو ما يحدد الطبيعة “الأيديولوجية للمعنى“»[11].
السميوزيس والإيديولوجيا
لقد سبق أن رأينا أن الإمساك بكل الممكنات الدلالية داخل السميوزيس لا يمكن أن يتم إلا من خلال مستويات، وهي مستويات يمكن اختزالها، عامّة، في مظهرين أساسيين؛ حيث يشير كل مظهر إلى تنظيم متفرد وخاص للقيم الدلالية، وذلك بتحديد كل الأنماط المتعلقة بإنتاج هذه القيم وأشكال تصريفها واستهلاكها. وضمن هذين المظهرين يمكننا أن نصنف كل العلامات، خاصة تلك التي تعود طبعا إلى السلوك الإنساني كما تمّ تجسيده في مجموعة من الممارسات الاجتماعية والثقافية؛ كالعادات والطقوس والاحتفالات والأحكام الاجتماعية.
ففي الحالة الأولى لا نستطيع الإمساك بهذه القيم لأنها تتحدد من خلال صيغ مجردة تتخذ طابعا لازمنيا. فهي لا تعيّن مرجعا محددا، بل هي في الأصل أفكار وممكنات يشترط فيها أن تكون مبهمة وغامضة. فهي قيم لا تحيل على أيّ شيء آخر ولا يستلزمها أي شيء سوى ذاتها. إنها سابقة على أي دلالة أو تركيب دلالي، وتعدّ قيماً متصلة ولا يمكن أن يًفكَّر فيها بصورة متمفصلة، ومع المتصل لا نستطيع إنتاج دلالة ما داخل نسيج هذه القيم.
أما في الحالة الثانية، فإن هذه القيم تنتقل من طابعها المبهم إلى المجسَّد والمتحقق في وقائع مخصوصة. فكل سلوك ليس سوى تكثيف لسلسلة من القيم أو السلوكات المتشابهة التي تتكرر في زمن أو مكان ما.
يستفاد من هذا الكلام أن الانتقال من المظهر الأول إلى المظهر الثاني ليس انتقالا سكونيا يشترط الثبات، أو هو انتقال يكتفي فقط بتحويل ما هو مكثّف ولا زمني داخل المستوى الأول إلى ما هو متمفصل ومحقق داخل المستوى الثاني (من صورة كونية تضم داخلها سلسلة من الثنائيات على شكل قيم عامة إلى أشكال وصيغ تحققها)، إنه على العكس من ذلك انتقال دينامي يبرر العلاقة القائمة بين المستويين. فالمضمون الأول يتطور ويغتني من خلال التحققات الخاصة. فكل تحقق يضيف أو يعدّل بهذه الصيغة أو تلك قيما جديدة أو معدلة إلى المضمون الأول. فمفهوم “الحرية” مثلا كمفهوم في ذاته يتميز بكلية المادة الدلالية، ولا يمكن أن يدل إلاّ من خلال شبكة التمفصلات والتقطيعات المفهومية – سواء على مستوى شكل أو مادة هذا المفهوم – التي يشتمل عليها. فصورة الحرية كحدّ داخل مقولة دلالية تامة:
حرية (م) عبودية. (حرية مقابل عبودية)
تتغذى وتتطور بفعل إدراج الوضعيات الإنسانية المتنوعة كأشكال ثقافية تساهم في بنائها مجموعة من العناصر المتداخلة؛ السياسية والدينية والإيديولوجية والأسطورية[12].
بمعنى آخر، إن مفهوم “الحرية” أو أي مفهوم آخر هو مفهوم يشتمل على مجمل الإمكانات الدلالية التي تحققه وتجسده. إن هذا المفهوم (الحرية)ينتقي مجمل الصور والأشكال والأبعاد والمظاهر التي يتجسد من خلالها كل ما يمكن أن يدل على”الحرية” في سياق محدد. فالحرية في ذاتها تكون متصلا وشيئا معزولا ومفصولا عن أي مرجع مادي محسوس تتجسد من خلاله. ولكي تملك القدرة على التدليل لا بدّ من ردّها إلى ما يكوّنها حينها تتحول عناصرها الداخلية إلى مسيرات دلالية. وفي هذه الحالة فإننا نكون «أمام مستويين يُصنف ويؤول ضمنهما الفعل الإنساني: مستوى خارج – سميائي ويتضمن مجمل التصنيفات القيمية والمجردة والقارة. إن هذه القيم توجد خارج الممارسة السميائية لأنها انفصلت عن الفعل الخاص، وهو ما يحدد هويتها المتميزة. ومن جهة أخرى هناك ما ينتمي إلى السميائي بحصر المعنى، ويعين هذا المستوى كل ما يدرك كتحقق محسوس ضمن سياق خاص. إن التفاعل بين المستويين هو ما يضمن استمرارية الحياة ومعقوليتها. فبدون سقف مجرد لا يمكن تصور فعل خاص، كما أن كل فعل خاص لا بد وأن يصنف – عاجلا أو آجلا – ضمن خانة تبرر وجوده واستمراره»[13].
إن تكرار هذه القيم يحولها إلى قوالب جاهزة ونسخ محققة لكي تعود من جديد لتمارس سلطتها على القيم الفردية §. فالقيم تخضع في تحققها لنموذج عام تثبته التجربة الجماعية لكي تنتج نوعا من التطابق بين الفرد والجماعة. لأن إدراك ما تدلّ عليه هذه القيم، لا يمكن أن يكون إلاّ بعد أن يعاد إنتاجها في شيء مادي. لأنّ معنى العلامة، هو ما يمكن ترجمته وتأويله في علامة أخرى. لذا لا نستطيع الاقتراب من علامة ما، إلاّ إذا أنتجنا نسخة وتحققا لهذه العلامة.
«وبناء عليه، يمكن القول إن ميلاد النص هو عملية تقود من مادة مضمونية عديمة الشكل إلى الوجود الفعلي للقيم. فالنص هو اختراق لمتصل لا حدود له. إنه اختراق يصوغ القيم ويعدل ويحذف ويضيف مستندا في ذلك إلى أهلية المتلقي وأهلية الموسوعة الثقافية التي ينتج ضمنها النص. فماذا يعني “الحب” و”الخير” و”الصدق” و”الحقد” و”العدوانية” و”الحرية” وكافة القيم الأخرى خارج حدود النسخ التي تخبر عنها؟ فهذه القيم لا يمكن أن تدل على أي شيء “فالكون الدلالي يتميز بكلية “المادة الدلالية” ولا يمكن أن يدل إلاّ من خلال شبكة التمفصلات التي يشتمل عليها“»[14].
إن المعنى بكل تمنّعاته الذي يُسنَد لهذه القيم لا يمكن أن يدرك بصورة فعلية إلا من خلال تحقق هذه القيم وتجسيدها في أدوار أو وظائف ومؤسسات تخرج هذه القيم من تجريديتها وتمنحها وجها مشخصا، وذلك بإعطائها مضمونا وصبّها في وعاء يتم من خلاله تحديد السياق أو التلوينات الثقافية التي تخصص هذه القيم وتخرجها من لازمنيتها المطلقة إلى زمن ومكان محددين، «إن التجسيد هو المدخل الرئيسي نحو خلق سلسلة من الأنساق التي تقوم بتنظيم مجموعة من القيم في أشكال محددة في الزمن وفي المكان. ويسمح هذا التنظيم لهذه القيم – تبعا لذلك – بالدخول مع بعضها البعض في شبكة من العلاقات التشابهية التقابلية والعكسية. ولعل هذه العلاقات المتنوعة هي ما يحكم نمط إدراكنا للعالم. فنحن لا ندرك إلا الاختلافات»[15].
ولا يمكن لهذه القيم أن تُحيَّن وتنتج دلالة إلاّ إذا أدرجت ضمن شبكة من العلاقات تمنحها وجها عمليا وإجرائيا وتنظيميا قابلا للإدراك والمعاينة. إن هذه العلاقات تمرّر وتصرّف السياق باعتباره شرطا أساسيا لترويج الدلالة والإمساك بها في الآن نفسه. إن تنظيم هذه القيم داخل وحدات سياقية محددة هو المشكِّل لما نصطلح على تسميته “الإيديولوجيا” أو الصياغة المخصوصة للقيم.
بذلك تكون الإيديولوجيا هي الوجه المرئي والمشخص لهذه القيم، إنها «التجسيد الفعلي للمادة المضمونية داخل حدود زمنية/فضائية تمنح القيم لونا وطعما وخصوصية. إن التشخيص هنا هو إدراج القيم المجردة ضمن سياقات خاصة. فالفعل الخاص يحتاج إلى سياق خاص يميزه ويستمد منه فرادته»[16]. وهذه الإيديولوجيا لا يمكن أن تكون إلاّ من طبيعة المادي والملموس. إذ ليس هناك أيّ معنى لأيّ سلوك أو ممارسة إلاّ في إطار نسيج مركب من المواد المحسوسة. ولا يمكن تصور أي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي خارج مدار هذا النسيج؛ أي خارج مدار السميوزيس. لهذا فالمطلوب هو إدراك الكيفية التي يتم بها استثمار السميوزيس في كل شكل من أشكال النسيج الاجتماعي. إنها بلغة أخرى تحدد وتهتم بطبيعة الإنتاج الاجتماعي للمعنى باعتبارها رُزما أو أنساقا ثقافية منمذجة ومركبة غايتها في ذلك اختراق الشبكات الاجتماعية للمعنى. لأن هذا المعنى هو وليد ممارسات أو هو حصيلة وخلاصة عمل اجتماعي.
تشتغل هذه الإيديولوجيا بوصفها حصيلة وسنن يكثف داخله كل الأشكال العامة للسلوك الإنساني القابل للتحقق. بمعنى آخر، فلا قيمة للسلوك إلاّ في إدراجه ضمن خانات مركبة تفترض وجود علاقات أو تعاقدات تتخذ شكل استثمارات في كتل من المواد القابلة للإدراك والمعاينة، والتي تعطي لهذا السلوك وغيره تحققاته الممكنة داخل سياق محدد، وهو ما يضعنا مباشرة أمام الإرغامات الخطابية أو القواعد المحدِّدة للشروط التي يتم بموجبها إنتاج وتداول شيء ما واستهلاكه. [17]
«إن الأفكار والتمثلات… التي تشكل، فيما يبدو، الإيديولوجيا لا تمتلك وجودا مثاليا أو فكريا أو روحيا، بل تمتلك وجود ماديا. إن الإيديولوجيا لا تظهر إلاّ مجسدة في جهاز وفي ممارسته أو ممارساته. إن هذا الوجود وجود مادي. فكل الممارسات المنتشرة في المجتمع، حفلات الزفاف، مراسيم التأبين، تلقي التهاني، وأيضا طريقة الجلوس والأكل واستقبال الضيوف… تندرج ضمن ما يسميه ألتوسير الإيديولوجيا المجسدة، وهي طريقة أخرى للقول إن القيم المجردة تتخذ من خلال الممارسة وجها مشخصا»[18].
إن التحول من النظام القيمي العام والمجرد إلى التحقق الخاص لا يمكن أن يتم إلاّ باعتماد سلسلة من القواعد والأنساق التي يتم بها تحيين القيم داخل سياق محدد. إن هذا التحول من العام والمجرد إلى المحقق، هو تحول لا يتم عن طريق الصدفة، بل هو تحول محكوم باستراتيجية تنظر إلى الدلالة بوصفها سيرورة تداولية يتحكم فيها محفِلا الإنتاج والتلقي.
«إن المعنى ليس محايثا للنص باعتباره إرسالية، بل إنه محايث لوضعية إبلاغية تشتمل، بالإضافة إلى باث ومتلقي، على مجموعة من الشروط (مجموعة مقاييس، منها النوع النصي وممارسة اجتماعية ما). ويمكن أن تكون هذه الشروط من طبيعة تداولية، ولكنها تداولية شاملة»[19].
بذلك نكون أمام مقاربة تسلم بتعدد وتعاضد المستويات سواء كانت محايثة أو محققة. واستنادا إلى كفاية المتلقي وأهليته الموسوعية لا ينبغي النظر إلى النصوص على أنها عوالم تفترض وجود معنى كلي ونهائي يقتضي من المؤول البحث عنه، بل إن الأمر يتعلق بجهة نظر معينة، وهي بمثابة فرضية مسبقة للقراءة قائمة على أسنن وتعاقدات مختلفة ومتعددة، تؤثر وتشتغل بوصفها شبكات للقراءة والتأويل.
إن هذه القراءة تنطلق من فرضية وجود مسيرات أو سيرورات لها صلة بالإمكانات التي تتآلف وتنسجم من خلالها وحدات المعنى في نسق محدد. فالمعنى – على نحو ما أشرنا إليه سلفا – بما هو تسنين وتكثيف لهذا التسنين وتصنيف وتعرّف ونمذجة، هو أداتنا الوحيدة في تنظيم التجربة الإنسانية وتحديد أشكال وطرق تمفصلها وتآلف وانسجام عناصرها.
إن التنظيم والانتقاء والحذف والتحجيم والتصنيف… هو ما يعيِّن ويشير إلى الطبيعة الإيديولوجية للمعنى، وهو ما يعني مثولنا أمام عملية تأويلية محكومة باستراتيجية. إنها تتعلق بما هو خطابي، أي بنحوٍ لتوليد المعنى واستثماره في وقائع ملموسة دالة. هذه الاستثمارات هي التي سيُنظر إليها بوصفها مجموعة من الإرغامات الخطابية المحددة للشروط التي يتم في إطارها أو بمقتضاها إنتاج المعنى وتداوله واستهلاكه. ويفضل إليزيو فيرون تسمية هذه الشروط “بشروط التعرف”[20].
وعلى هذا الأساس، فإن الإيديولوجيا «ليست سجلاّ لمضامين محددة (“الإرادة” “والمواقف” و”التمثلات”) بل هي نحو لتوليد المعنى، ولاستثماره في مواد دالة. ولا يمكن تبعا لذلك تحديدها من خلال المضامين»[21]. إنها بمعنى آخر مجموعة من الإرغامات أو الأنساق البانية ليس فقط لحالات التسييج النهائي للفعل التأويلي، بل إنها تقوم بدور المثير أيضا، ومن شأن هذه الأنساق الإيديولوجية أن تحث القارئ، أحيانا، عل إيجاد أمور في النص يكون المؤلف نفسه غير واعٍ بها، لكن النص ينقلها ويعمل عل ترويجها بصيغة من الصيغ. إن هذه البنيات الإيديولوجية تتحكّم في الأشكال والوقائع التي يتم بها تحيين وتخصيص القيم.
ويمكن النظر إلى هذه الأنساق الإيديولوجية بوصفها حالات مسننة، تنتمي إلى الموسوعة. وعلى هذا فإن القارئ يقارب النص انطلاقا من منظور إيديولوجي بوصفه جزءا من موسوعته حتى وإن كان غير واع بذلك.
إن كل ما تمّت الإشارة إليه لحدّ الآن يؤكّد أن أيّ مقاربة أو تحليل لأيّ ظاهرة دالّة، هو بالضرورة تحليل يقتضي استحضار عناصر خارجية. فالمعنى المنتَج لا يصبح محققا ومرئيا – كما سلف – إلاّ في علاقته بالنسق الإنتاجي الذي ولّده، أي في علاقته مع ما يوجد خارجه “أي العناصر التي شكلتها شروط الإنتاج والتداول والتعرّف”[22].
استنادا إلى هذا لا يمكن للنص أبدا أن يكون معزولا، فهو يستمد معناه من العلاقات المباشرة مع نصوص أخرى خارجة عنه (نص الثقافة ونص التاريخ)، إنه لا يمكن أن يكون سوى تحقق داخل نوع ما. ولتحيين أبسط مكوناته الدالة، لا بد من الاستنجاد بمعارف موسوعية متنوعة ومتعددة. وإن كل تعدد إنما يعود ويوكل أمره إلى الذات التي تقوم بالتأويل والتي تملك القدرة على تحيين دلالات النص بناء على انتقاءات سياقية. هذه الانتقاءات تتشكل انطلاقا من فرضيات ومؤشرات تأويلية تعطي للقارئ/المؤول الحق في إعادة بناء قصدية النص من خلال إعادة بناء سياقاته الداخلية. والكشف عن هذه الأخيرة قمين بتحقيق قراءة منسجمة ومتنوعة ومتعددة للنص،«فلا يمكن تصور معنى مكتف بذاته وقادر على التدليل خارج الذات التي تستقبله، فالتعرف على المعنى وتحديد حجمه وامتداداته جزء من سيرورة تشكله، والتعرف على الواقعة الدالة هو إمساك بسيرورة تعد انتقاء سياقيا مخصوصا، أو هو فرضية للقراءة، وهو ما يلغي فكرة التأويل الكلي والشامل للنصوص. ولهذا فإن القول بإمكانية الإحاطة الكلية بالدلالة النهائية للنص ضمن قراءة واحدة شاملة أمر في غاية الغرابة»[23].
إن هذه القراءة ذاتها مقيدة بالاختيارات والوضعيات التي يفرضها النموذج التأويلي، وهو نموذج يعين منذ البداية الصيغ والأشكال التي تجعل القارئ قادرا على الإمساك بالعوالم الدلالية التي يثيرها النص، سواء كانت هذه العوالم تنتمي إلى النص (المعرفة النصية)، أو خارجة عنه (المعرفة الخارج – نصية).
«من هنا تتحدد القراءة (التأويل) كإحالة مزدوجة. فمن جهة تحيل القراءة على المعرفة الملفوظية، أي العالم الدلالي المعطى بشكل مباشر من خلال عناصر النص نفسها، ومن جهة ثانية تحيل على معرفة خارج/نصية. وهذه المعرفة (كما توحي بذلك كلمة خارج) ليست منفصلة عن النص ولا متناقضة معه إنما الكشف عنها يستدعي تنشيطا لذاكرة القارئ وذاكرة النص»[24].
هذا التنشيط هو ما اصطلح أمبرتو إيكو على تسميته بالتعاضد التأويلي. وقوة هذا التعاضد ومردوديته يتحققان في القدرة على الربط بين ما ينتمي إلى النص كشيء خاص به وبين ما هو خارج عنه؛ أي نص الثقافة الذي يحتويه.
«في ضوء كل ما سبق، فإن النص عندما يتحدد ككيان مستقل الوجود من حيث قدرته على الانفصال عن المادة التي تؤثث الكون الإنساني كله – أي عما يشكل الوجه المتصل للكون – فإن سلسلة المؤولات تميل إلى الانكفاء على نفسها وتبحث عن شكل دلالي تستقر عليه. إن النص من هذه الزاوية إذن، لا يشتمل على معنى، ولا حتى على معاني، ولا يضم بين دفتيه دلالة نهائية كلية أو جزئية، بل هو خزان كبير لسياقات بالغة التنوع والتعدد والتجدد. وللذات المتلقية (القارئ) وحدها القدرة على تحيين هذه الدلالة أو تلك ضمن هذا المسير التأويلي أو ذاك ضمن شروط “الانتقاء السياقي” والظروف المقامية الخاصة بكل فعل قراءة»[25].
هوامش الدراسة
[1] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2003.ص:145.
[2] – المرجع نفسه، ص:155.
[3] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص:148.
[4] – فرانسوا (راستيي): “المعنى بين الذاتية والموضوعية “، ترجمة: محمد الرضواني، مجلة علامات العدد 13 السنة 2000.ص:60.
[5]–GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE Introduction à la sémiotique de C. S. Peirce ,PAYOT , PARIS, 1979. PP.33/34.
[6] – أمبرتو( إيكو): التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2000.
، ص:134/135.
[7] – المرجع نفسه، ص:135.
[8] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص:154.
[9] – جيرار (دولودال):” تنبيه لقراء بورس ” ترجمة عبد العلي اليزمي، تقديم سعيد بنگراد، مجلة علامات العدد 8، السنة، 1997، ص:113.
[10] –Umberto (Eco): Le Signe, Histoire et Analyse d`un concept, adapté de L`italien par: Jean Marie Klinkenberg. ED, Labor Bruxelle, 1988. , P: 133.
[11] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص:159.
[12] – سعيد (بنگراد):شخصيات النص السردي – البناء الثقافي – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس 1994، ص:44.
[13] – سعيد (بنگراد): ” المؤول والعلامة والتأويل “، مجلة فكر ونقد، العدد 16، فبراير، السنة 1999، ص:59.
§ – لا يمكننا – مع بورس – أن نتكلم عن معنى أو عن علامة ما إلاّ إذا كانت محققة ومجسدة في واقعة ما. وقد أسمى بورس هذا التحقق أو التجسيد للعلامة ” نسخة “. فعندما نتكلم عن النسخ لا بدّ من أن نضع نصب أعيننا أن النموذج (المثال) يختلف عن النسخة أو التحقق. فالنموذج يتوقع الخصائص الأساسية والجوهرية التي يحيِِّنها التحقق كي يُنظر إلى هذه الخصائص على أنها نسخ كافية ومستقلة عن باقي الخصائص الأخرى. وقد ضرب دولودال مثلا لذلك في قوله: إن أداة التعريف ” ال” بوصفها علامة لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها كأداة للتعريف إلاّ إذا تحققت في صوت ما أو في كتابة خطية. للمزيد أنظر:
GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE OP; Cit. P: 23.
[14] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص:157.
[15] – سعيد (بنگراد):شخصيات النص السردي، مرجع مذكور، ص:67.
[16] – سعيد (بنگراد): السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع مذكور، ص:157.
[17]–Eliseo (Veron):”Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir”; in Communications 28 ;1978; P: 8.
[18] – سعيد (بنگراد):”عن التسنين السردي والتسنين الإيديولوجي”، مجلة علامات العدد 2 السنة الأولى 1994، ص:27
[19] – فرانسوا (راستيي): “المعنى بين الذاتية والموضوعية “، ترجمة: محمد الرضواني، مجلة علامات ، العدد: 13، السنة، 2000 . ص:61.
[20] –Eliseo(Veron):”Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir”; in Communications 28; 1978; P:8.
[21] –Ibid; P:15.
[22] – Eliseo(Veron):”Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir” in Communications 28; 1978; P :12.
[23] – سعيد (بنگراد): “ممكنات التأويل ومحدودية النموذج النظري “، مجلة فكر ونقد مرجع مذكور، ص، 32.
[24] – سعيد (بنگراد):شخصيات النص السردي – البناء الثقافي – منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس 1994.
:104/105.
[25] – سعيد (بنگراد):” السميوزيس والقراءة والتأويل ” مجلة علامات العدد 10، ص 49.