آخر الإدراجات

أبعاد ومستويات السميوزيس التركيب والدلالة والتداول

أبعاد ومستويات السميوزيس التركيب والدلالة والتداول

تفريعات العلامة

 تنتمي العلامة نفسها في إطار السيرورة السميائية إلى مقولات وإلى تفريعات مختلفة من العلامات. هذا الانتماء تحدّده شروط ومقتضيات الإحالة؛ إذ يُنظر إلى العلامة في علاقتها بذاتها بوصفها أولى وفي علاقتها بموضوعها بوصفها ثانية وفي علاقتها بمؤولها بوصفها ثالثة. فبالنسبة لعلاقة العلامة مع ذاتها، فإنها تبقى كما هي في استقلال عن موضوعها وعن مؤولها. وبوصفها أولى، فإنها ستدخل في باب الإمكان أي (علامة نوعية) و(علامة فردية) واقعية تخرج من دائرة الغموض والتعميم إلى التجسيد المحدّد في الزمان والمكان بوصفها ثانية، (وعلامة قانونية) بوصفها ثالثة؛ أي علامة مسنّنة خاضعة لمبدأ العرف والعادة وهي التي تمكّن من ربط الأولى بالثانية. وبالنسبة لعلاقتها مع موضوعها، فإنها إما أن تشبهه أو تشير إليه باعتماد السياق أو تحدّده بموجب قاعدة أو قانون ما، وهي على التوالي (أيقونة) و (أمارة) و (رمز ). وبالنسبة لعلاقتها مع مؤوّلها، فإنها بكل بساطة تُدرك أو تُمثَّل غير متجاوزة حدود الإمكان الأولاني (خبر) أو تتجاوز ذلك إلى الفعل والتجربة كشيء يؤسّس لعلاقة أو لوجود واقعي انطلاقا من معطيات منطقية (تصديق) أو يتمّ تأويلها عن طريق الاستدلال بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ؛ أي باعتماد الافتراض والاستقراء والاستنباط ( حجّة ) .

البعد التركيبي (بعد الماثول) أو التفريع الثلاثي للماثول

   يمكن للماثول أن ينتمي إلى مقولة الإمكان (الأولانية)، كما يمكنه أن ينتمي إلى مقولة الواقعي (الثانيانية) أو إلى مقولة القانون (الثالثانية). تبعا لهذا التصنيف الثلاثي الأول، فالعلامة تسمى: علامة نوعية (أولانية الأولانية) وعلامة مفردة (ثانيانية الأولانية) وعلامة قانونية (ثالثانية الأولانية).

العلامة النوعية qualisigne

    » إن العلامة النوعية، هي علامة أساسها هو النوعية ، وهي نوعية تشتغل كعلامة. ولا يمكن لهذه النوعية أن تشتغل وتؤثر بصفتها علامة إلاّ بعد أن تتجسّد في شيء أو حدث واقعي. إلاّ أن هذا التجسيد لا علاقة له بطابعها كعلامة «[1].

   إن ” الأحمر” و” الجميل ” و” المعاناة “… يمكن أن تشتغل بوصفها علامات نوعية. غير أن فعل هذه العلامة النوعية لا يدرك جيدا إلاّ بعد عمليتي تهذيب وتصفية يتم بموجبهما تجريد هذه النوعية من كل بعد واقعي يمكن أن يعطيها تحققا ما. إن الإمساك بهذه النوعية ، من خلال التعرف عليها وجعلها تشتغل كعلامة، لا يمكن أن يتم إلاّ من خلال تأمّلها كشيء كلّي وكشيء ” أوّل ” ؛ أي القيام بعزلها بصرف النظر عن الظروف الزمانية والمكانية التي تظهر من خلالها هذه النوعية. [2]

 فإدراك ما تدلّ عليه هذه النوعية، لا يمكن أن يكون إلاّ بعد أن يعاد إنتاجا في شيء مادي. لأنّ معنى العلامة، هو ما يمكن ترجمته وتأويله في علامة أخرى. لذا لا نستطيع الاقتراب من علامة نوعية ، إلاّ إذا أنتجنا انعكاسا أو نسخة لهذه العلامة ، أو قمنا بمحاكاتها أو نقلناها عن المماثل أو الشيء الذي يطابقها » فإذا كنت أعلِّم السباحة لشخص ما، فإن حركات ذراعي وجسمي تعدّ نوعية يمكن تأويلها في ذاتها كعلامة / عماد لحركات المتعلِّم المتماثلة نوعيا؛ المحاكاة، الميم ، الانعكاس. والعلامات النوعية هي مصدر الاستعارة والتماثل والمشابهة «[3].

  وبصورة أدقّ، فالنوعية العامة تحضر في الذهن بواسطة الإحساس المفصول عن سياقه، وإدراك هذه النوعية ينتج أو يولِّد في هذا الذهن فكرة شيء آخر يشتمل بدوره على هذه النوعية، لأن هذا الإحساس الأول يمثُل في نواتها الظاهراتية؛ »فالنوعيات لا تشتغل كعلامات إلاّ من خلال أولانياتها. فلسنا في حاجة إلى تحديد أيّ شيء آخر لنحول إحساسا عاما أو نوعية عامة إلى علامة لأنّ الانتقال إلى شيء آخر قتل لهذه العلامة « [4].

العلامة المفردة sinsigne

           » إن العلامة المفردة كما يوحي بذلك اسمها (حيث يتم استخدام المقطع Sin للدلالة على ” ما يحدث مرة واحدة ” مثل Singulier  و Semel و Simple  في اللغة اللاتينية)، هي شيء أو حدث موجود بصورة فعلية. ولا يمكن لهذا الحدث أن يكون كذلك إلاّ من خلال نوعياته حيث يستدعي نوعية أو بالأحرى عددا هاما من العلامات النوعية. غير أن هذه العلامات النوعية هي من طبيعة خاصة، ولا يمكنها أن تشكل علامة إلا بعد أن تتجسّد بصورة فعلية «[5] .

     تعدّ العلامة المفردة شيئا أو حدثا واقعيا. ويعود الفضل في تحديد هذا الشيء إلى السياق الزماني والمكاني، لأنه هو المشكِّل لهذه العلامة وهكذا ، فإن طلقة المسدس الفجائية التي تعطي الانطلاق للمتسابقين هي علامة مفردة، والعبارات التي نستعملها في حفلة الزفاف، أو حينما نؤدي القسم أمام القاضي أو حينما ينطق قاض بالحكم… كل هذه الوقائع ترتبط بالسياق وبالإحالة التي يكون عليها الشخص أثناء عملية التلفظ بتلك العبارات، كما ترتبط بالتنغيم. وغياب السياق، ينزع عنها صفة العلامة. هذه العلامات الطقوسية والإنجازية، ليست في، في جوهرها، سوى علامات مفردة. [6]

   وتشتمل كل علامة مفردة على علامة نوعية مجسدة فعليا داخل سياق محدد لذا،» فالعلامة المفردة لا تشتغل كعلامة، إلاّ في حدود تجسيدها داخل واقعة خاصة ومحددة تشتغل، في الحال، كماثول ليس من خلال العلامات النوعية، بل من خلال الطابع المتفرّد والملموس الذي يُمنح لهذه العلامات«  [7].  

العلامة القانونية  legisigne

»العلامة القانونية، هي قانون يشتغل بصفته علامة. هذا القانون هو من وضع الناس عادة، مما يفسّر أن كل علامة تعاقدية، هي علامة قانونية (وليس العكس). والعلامة القانونية ليست موضوعا مفردا، بل هي نمط عام يجب أن يكون دالاّ من خلال ما تمّ التعاقد عليه. لذا فكل علامة قانونية تدلّ عبر حالات تطبيقية أو من خلال تجسّدها في حالة خاصة ، يمكن تسميتها نسخة: مثلا، إن أداة التعريف “The ” التي تبدو عادة في الإنجليزية خمس عشرة إلى خمسة وعشرين مرّة في الصفحة الواحدة، وفي بعض الأحيان تقابلنا الأداة نفسها، فهي العلامة القانونية نفسها، وكل حالة خاصة، هي نسخة . والنسخة علامة مفردة . هكذا، فكل علامة قانونية تستدعي علامات مفردة، غير أن هذه الأخيرة ليست عادية كما هي في الإنتاجات الخاصة التي نعتبرها دالّة. كما أن النسخة لا تكون دالّة دون قانون يؤهّلها لذلك «[8]، إن اعتبارنا أداة التعريف“ The ”علامة قانونية، معناه استحضار كمّ هائل من القواعد اللغوية سواء الصوتية أو التركيبية أو الدلالية أو التداولية التي تحدّد متى وكيف نستعمل هذه الأداة. غير أننا لا نستطيع استعمال هذه الأداة إلاّ إذا قمنا باستدعاء الصوت أو الكتابة بوصفهما سيرورتين توسطيتين تجسّدان هذه الأداة. هذا التجسيد يكون في علامات مفردة، وبنفس الشكل، تشتمل العلامات القانونية على علامات نوعية، مثل النبر في النسخة الشفهية أو شكل الحروف في النسخة المكتوبة.

   بناء على ما سبق، فالعلامة القانونية تتأسس انطلاقا من أعراف أو تسنينات لغوية أو بنيات اجتماعية أو ثقافية تمّ التعارف عليها في مجتمع ما. فكل العلامات التعاقدية التي تشكل جزءا من نسق ما، هي علامات قانونية. ومع ذلك فهذه الأخيرة لا يمكن أن تشتغل إلاّ بعد أن تتجسّد في علامات مفردة التي تشكل نسخا. بمعنى آخر، فنحن لا نكتب العلامات القانونية أو نقوم بقراءتها، أو ننطق بها أو نسمعها، بل نكتب ونقرأ ونسمع وننطق نسخها فقط. وتختلف العلاقة بين العلامة القانونية ونسختها عن العلاقة بين العلامة النوعية والعلامة المفردة. فالعلامة القانونية تشكّل نمطا عاما لكنها محدّدة بقواعد وأعراف تمنحها هوية محددة، بخلاف العلامات النوعية التي لا تملك هذه الهوية.

 » إن الفرق بين العلامة القانونية والعلامة النوعية (…) يتبدّى في كون العلامة القانونية تملك هوية محددة مع العلم أنها عادة ما تظهر بمظاهر مختلفة ومتعدّدة (…) بينما تفتقد العلامة النوعية هذه الهوية. إنها النوعية المحضة والتعبير القحّ لمظهر ما ، ولا تملك هذه النوعية المظهر نفسه عندما تحاول الظهور ثانية «[9].       

   »فكل ما يشتغل كقانون عام أي كقاعدة معترف بها جماعيا يشتغل كعلامة قانونية. فكلمات اللسان تشتغل كعلامات قانونية وكل نسخة أي كل تحقق لهذه الكلمة أو تلك في هذا السياق أو ذاك تشتغل كعلامة مفردة. وبناء عليه فكل علامة قانونية تحتاج لكي تتجسد إلى علامة مفردة. إلاّ أن وجود العلامات المفردة ليس شرطا ضروريا لوجود العلامات القانونية «.[10]

ومن الخطأ التفكير بأن العلامات المفردة والعلامات النوعية والعلامات القانونية تشكل وحدات مختلفة. فالأمر يتعلّق بثلاث وظائف متميزة تتخذ مظاهر متعددة ومختلفة يمكن لأيّ شيء، بفضلها ، أن يصير عماد العلامة. إذ يمكن للشيء الواحد نفسه أن يكون في الوقت ذاته علامة نوعية من جهة نظر معينة وعلامة مفردة من جهة نظر أخرى  وعلامة قانونية من جهة نظر ثالثة [11]. وعلى هذا الأساس ، فالماثول منظورا إليه في أوّليته يشتغل بوصفه علامة نوعية، وعلامة مفردة في ثانيته، وعلامة قانون في ثالثيته.

البعد الدلالي (بعد الموضوع) أو التفريع الثلاثي للموضوع

    تقيم العلامة، في هذا التوزيع الثلاثي الثاني، علاقة مع موضوعها. فالأنواع الثلاثة الموالية هي أنواع تنتمي إلى الموضوع، هذه الأنواع هي التي تحدد نوعية العلاقة التي تقيمها العلامة مع موضوعها. حيث علاقة الموضوع بالماثول بوصفه أولا، وعلاقة الموضوع بالموضوع بوصفه ثانيا، وعلاقة الموضوع بالمؤول بوصفه ثالثا. والعلامة حسب هذا التوزيع الثلاثي الثاني تسمى: أيقونة وأمارة  ورمزا. بمعنى آخر، فعلاقة العلامة بموضوعها علاقة قائمة على التشابه ( أيقونة )، أو على التجاور السياقي ( أمارة ) أو هي قانون وقاعدة ( رمز ).

الأيقونة   Icône
  • تشابه الأولانية

    يعرّف بورس الأيقونة بكونها »علامة تمتلك الخاصية التي تجعل منها شيئا دالاّ حتى في غياب موضوعها. مثال ذلك خط بقلم الرصاص، الذي يمثل شكلا هندسيا (…) إن الأيقونة علامة تحيل على الموضوع الذي تعينه ببساطة انطلاقا من الخصائص التي تمتلكها سواء وجِد هذا الموضوع حقيقة أم لم يوجد. صحيح أن الأيقونة لا تشتغل كعلامة ما لم يكن هناك موضوع. غير أنه ليس لهذا علاقة بخاصيتها كعلامة. إن أيّ شيء، كيفما كان نوعه سواء كان نوعية أو فردا موجودا أو قانونا هو أيقونة لشيء ما، شريطة أن تشبه هذا الشيء وأن تستعمل كعلامة لهذا الشيء «.[12] إن الأيقونة بلغة بورس، علامة تعتمد منطق التشابه بين عناصرها، فهي تحيل على موضوعها برسمه أو بمحاكاته وبالتالي يُشترط فيها أن تشاركه بعض الخصائص. ويمكن أن نستبدل أيقونة بأخرى تحاكيها في إطار السيرورة التدليلية اللامتناهية. إن الصورة الفوتوغرافية للوحة الجوكندا، مثلا، هي أيقونة الأيقونة مما جعل بورس يميز بين نوعين من الأيقونات: الأيقونات الأصلية والأيقونات الفرعية. فالصورة مثلا هي أيقونة تحلّ محلّ الشيء المُحال عليه، وتشبهه إلى الحدّ الذي يجعلنا نفقد الإحساس بأن الذي نشاهده ليس الشيء نفسه، ولكنه مجرد علامة حلّت محلّه » إن العلامة تحيل على موضوعها بطريقة أيقونية عندما تشبه موضوعها. هكذا لا يمكن أن نعثر داخل الأولانية سوى على التشابه: فالأولانية لا تملك حدّا ثانيا، ولا أيّ شيء آخر؛ إنها تنتمي إلى نظام “المماثل ” والكلّي. وفي الأيقونة الخالصة ليس هناك فرق بين الماثول وموضوعه؛ فرائحة الوردة مثلا، لا تحيل إلاّ على نفسها «[13]

وقد أوضح أمبرتو إيكو بأن الأيقونة علامة تمتلك خصائص الموضوع الممثّل، لا يعدو كونه تحصيل حاصل، ذلك أن الأيقونة لا تستطيع كيفما كانت مهارة الفنان ودقّة الآلة أن تحاكيها وتنتج لنا نسخة مطابقة. فأنت إذا شاهدت كأسا من الجعّة على صفحة إشهارية، فإنك ستدرك الجعّة، ولكنك لن تحسّ بها، لن تحسّ لا بانتعاشها ولا ببرودتها. قد تحسّ بدوافع أو مثيرات بصرية ـ الألوان، التنسيق الزماني والمكاني ـ ولكنك لن تُوفّق في إدراكها دفعة واحدة ، ولكي يتمّ لك ذلك عليك أن تقوم بعملية تنسيق بين كل العناصر لتثبّتها في بنية إدراكية، أي أنك تعمل على سنن موجودة قبلا. إن العلاقة الموجودة بين السنن والإرسالية لا تتعلّق بالعلامة الأيقونية ، بل بميكانيزم الإدراك باعتباره واقعة إبلاغية. على ضوء هذه المعطيات يقدّم أمبرتو إيكو الخلاصات الآتية، إن العلامات الأيقونية لا تملك خاصّيات الموضوع المُمثّل ،إنها تُعيد إنتاج بعض شروط الإدراك المشترك على أساس السنن الإدراكية العادية ، عبر انتقاء بعض الدوافع أو المثيرات التي تسمح لي بتشييد بنية إدراكية تملك الدلالة نفسها التي حدّدتها التجربة الواقعية بواسطة العلامة الأيقونية.

  بناء على ذلك، يحذّرنا أمبرتو إيكو من التعريف السالف، فنعتبر العلامات الأيقونية ـ انطلاقا من مبدأ التشابه ـ علامات طبيعية يمكن التعرّف عليها بمجرّد إدراكنا لها بالحواس في غياب تعاقد سابق يحدد منحى تأويلها ويربط بين دالّها وما يحيل عليه فيها. إن التشابه الذي ندركه بين الصورة والشيء المصوَّر هو نتاج أو حصيلة لممارسة ثقافية واجتماعية يطلق عليها إيكو سنن التعرُّف.[14]

الأمارة   indice
  • تجاور الثانياتية :

    يعرّف بورس الأمارة، بكونها »علامة تحيل على الموضوع الذي تقوم بتعيينه انطلاقا من تأثّرها الحقيقي بذلك الموضوع. ولا يمكن للأمارة أن تكون علامة نوعية مادامت النوعيات في استقلال عن أيّ شيء آخر. وفي حدود تأثّر الأمارة بالموضوع، فهذا يعني، ضرورة، أنها تمتلك بعض الخصائص المشتركة معه، وبالنظر إلى هذه الخصائص المشتركة، فالأمارة تستطيع الإحالة على هذا الموضوع. وتتضمّن الأمارة نوعا من الأيقونة، طبعا مع اعتبار هذه الأخيرة أيقونة من نوع خاص، وليست المشابهة التي تتقاسمها مع الموضوع فقط هي التي تجعل من الأمارة علامة، بل التعديل الحقيقي الصادر عن الموضوع هو الذي يجعل من الأمارة علامة «[15]

    وفي موضع آخر، يعرّف بورس الأمارة قائلا:»الأمارة أو المعنم sème ماثول تكمن خاصيته التمثيلية في كونه ثانيا مفردا. فإذا كانت الثانياتية علاقة وجودية، فالأمارة في هذه الحالة أصلية. أمّا ذا كانت الثانيانية إحالة، فالأمارة ستكون مشتقّة أو فرعية « [16]

   يظهر مما تقدّم أن الأمارة تنتمي إلى نظام الثانياتية، وهي تفترض التمييز بين أول ( الماثول ) وثان ( الموضوع ) انطلاقا من علاقة سياقية. فالعلامة تحيل على موضوعها بطريقة أمارتية ، عندما تتأثر هذه العلامة حقيقة بذلك الموضوع. فإذا كانت العلاقة بين الأيقونة وموضوعها يحكمها منطق التشابه، فإن العلاقة بين الأمارة وموضوعها يحكمها منطق التجاور أو المجاورة. وبالتالي، فالأمارة هي ذلك الشيء الذي يوجّه انتباهك إلى شيء ما (موضوع) عبر دافع ما، وتدخل بذلك في علاقة مجاورة مباشَرة مع الموضوع. فهي علامة مفردة وتحيل على موضوع مفرد. هكذا فالدخان الذي نراه في مكان ما وفي لحظة ما (زمان ومكان محددين) أمارة على وجود النار في تلك اللحظة بالذات وفي ذلك المكان. ممّا يسمح لنا بالقول، إن الأمارة وموضوعها يدخلان في علاقة تجاور سياقي. غير أن العلاقة بين الدخان والنار بصفة عامّة، ليست من طبيعة أمارتية؛ إذ الأمر يتعلق بترابط أفكار باعتبار هذه الأخيرة تنتمي إلى نسق الثالثانية. فالعلاقة بين الدخان والنار في هذه الحالة الأخيرة هي علاقة رمزية [17].

    إننا عند كل تعيين لشيء ما مثلا، لا بدّ من استدعاء الأمارة، وأية معلومات عن الواقع الخارجي لا بدّ وأن تتضمّن بعض الأمارات وبالتالي، فالأمارة تخصّ مجال التجربة الخارجية.

   وفي بعض الأحيان، تحيل الأمارة على موضوعها بطريقة بعيدة، وذلك بأن تتوسّط بينها وبين موضوعها أمارة أخرى أو أكثر. فالدخان أمارة على وجود النار وهذه الأخيرة أمارة على وجود ملجأ أو منزل. ومن الأقوال المأثورة عند العرب أنهم إذا أرادوا وصف قوم بالبخل قالوا:” أولئك قوم يوقدون نارهم بالوادي”. فإيقاد النار في الوادي بوصفه منخفَضا أمارة على رغبة هؤلاء القوم في إخفاء النار عن المهتدين بها إلى منازلهم، والرغبة في إخفاء النار تصبح بدورها أمارة على عدم رغبة هؤلاء القوم في الضيوف القاصدين لهم. وهذا يفسّر بخل هؤلاء القوم .    

  وفي هذا الصدد يميّز بورس بين نوعين من الأمارات :

  1. أمارات أصلية، وهي التي تحيل مباشرة على موضوعها.
  2. وأمارات فرعية تتصل بموضوعها عبر أشكال سيرورات توسطية، » فإذا كانت الثانيانية علاقة وجودية، فالأمارة في هذه الحالة أصلية. أمّا ذا كانت الثانيانية إحالة، فالأمارة ستكون مشتقّة أو فرعية «[18] .

   من هذه الزاوية ندرك أن منطق بورس بالنسبة لأسماء الإشارة والضمائر بوصفها أمارات فرعية، لا يفهم إلاّ من خلال التجاور السياقي، فلا نستطيع إدراك ما تريد ” الآن ” أو ” الهنا ” أو ” هذا ” قوله إلاّ من خلال ربطها بالموضوع الذي تحيل عليه ربطا مباشرا ، الدافع الذي جعل بورس يؤكّد على وظيفة الأمارة أكثر من تأكيده على ماهيتها،  »فأسماء الإشارة ” هذا ” و ” ذلك ” تعدّ أمارات لكونها تتطلب من المستمع أن يركّز انتباهه ويستخدم قوة ملاحظته وأن يؤسس رابطا حقيقيا بين فكره والموضوع الذي تحيل عليه أسماء الإشارة. وتكمن فاعلية هذه الأخيرة في كونها تدفع المستمع إلى هذا السلوك، وإن فشلت في هذا، فلا تُفهم دلالتها. وإذا قامت أسماء الإشارة بهذه الوظيفة، فإنها تصبح من جراء ذلك أمارة «[19].      

   لقد ميّز بورس في تصنيفه للأمارات بين الأمارات الطبيعية التي اصطلح على تسميتها بالأمارات فقط، وبين الأمارات اللسانية التي اختار لها اسم الأمارات الفرعية. فعلى الرغم من أن النوعين يشتركان معا في الوظيفة، فإنهما يختلفان من حيث الماهية. فالنوع الأول ينتمي إلى صنف العلامات الطبيعية (الدخان مثلا)، بينما ينتمي النوع الثاني إلى صنف العلامات التعاقدية التي يبدعها الإنسان  »فالبارومتر المنخفض (قياس الضغط الجوي) والكتل الهوائية الرّطبة أمارة على الأمطار؛ أي أننا نفترض أن قوى الطبيعة تؤسّس علاقة محتملة بين البارومتر المنخفض والكتل الهوائية الرطبة والأمطار المقبلة. كما أن وردة الرياح Girouette أمارة على جهة الرياح لأنها في الواقع تأخذ الاتجاه الذي تسير فيه الرياح بصورة تكونان فيها معا مرتبطتين«[20]. إن الإنسان عندما تصادفه في تجربته اليومية أمارة ما، فإنه يفسّرها بما تحيل عليه هذه الأمارة. انسجاما مع هذا المعطى، فالأمارة تكون معلّلة غير اعتباطية لسبب بسيط، وهو كونها تُحيلك بشكل آلي على مرجعها كما هو في العالم الخارجي.

 لذا فالعلاقة التجاورية بين الأمارة وما تحيل عليه، لا تدع فرصة للشّك في كون هذه الأمارة تحتوي بداخلها على عناصر الموضوع المُمثّل .§

إن مقارنة من هذا النوع ، تبدو إلى حدّ ما سليمة ، خاصّة إذا نحن سلّمنا بأن علميات الإدراك عمليات بسيطة، وأن الأمارة ذاتها تستوفي كل شروط وجود الموضوع الذي تشير إليه . على هذا الأساس يعارض إيكو أمبرتو ـ كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في الأيقونة ـ فكرة التعليل في الأمارة، بحكم أن إدراك الموضوع عبر الأمارة ليس بسيطا، إنه يستدعي سننا إدراكية قبلية ( سنن التعرّف ): سياسية وثقافية وإيديولوجية واجتماعية وتاريخية … وبالتالي فالانطلاق من دالّ الأمارة إلى مدلولها أو ما تحيل عليه ، لا يتم انطلاقا ممّا يوفّره الأول من خاصيات الموضوع المشار إليه ، بل من تجربة محصّل عليها سابقا.

  الوظيفة المرجعية للأمارة :

       لا أحد يقلّل من أهمية الأمارة في نقل معلومة ما. فالأمارة تسمح للمتلقي ليس فقط الكشف عن الموضوع الذي يتحدّث عنه المتكلّم، بل إنها تجعله يتأكّد من حقيقة وجوده. فبمساعدة الأمارة مثلا نستطيع تعيين الموضوع الذي لا يدركه المستمع، ولتوضيح هذا الإجراء يقدّم بورس المثال الآتي: »هناك رجلان واقفان جنب الشاطئ ينظران إلى البحر، يقول الواحد منهما للآخر ” إن المركب الموجود هناك لا ينقل بضائع، بل مسافرين فقط “. لكن إذا كان الآخر نفسه لا يرى المركب، فإن المعلومة الأولى التي استخلصها من ملاحظة صديقه تجعل من جزء البحر الذي يراه حقّا موضوعا لها، هذه المعلومة توحي له بأن هناك شخصا آخر أحدّ منه بصرا، أو أكثر منه تجربة ومراسا في النظر إلى هذه الأشياء، وأن هذا الشخص يرى مركبا هناك؛ من هذا المنطلق، يكون المركب قد أصبح مُمثَّلا في معرفته، الشيء الذي يجعله مستعدا لتلقي معلومة تخص هذا المركب ، مفادها أنه لا ينقل سوى المسافرين فقط«[21].

      إذا كانت العلاقة الأيقونية بين الماثول والموضوع شرطا أساسيا لكل سيرورة تأويلية وتواصلية لأنها تؤسس الاستمرارية بينهما، فإن العلاقة الأمارتية شرط أساسي لكل فعل تأويلي لا يقلّ أهمية عن سابقه، لأن هذه العلاقة تجعل الاكتشاف والتواصل لما كان منقطعا ومختلفا أمرا ممكنا. إنها الشرط الأساسي للإمكان والتجربة. ويمكن للمجاور، انطلاقا من ميكانيزمات الأمارة، أن يتمفصل مع المتصل ويرتبط معه ويسمحان بلقاء المماثل في الآخر، هذا اللقاء هو ما يشكّل الشرط الأول والأساسي لكل معرفة أصيلة [22].     

    إن اشتغال الأمارة، حاضر في كل الأنساق الدلالية أو التواصلية، وسواء على مستوى اللغة الجسدية، موطنها الأصلي، أو مستوى اللغة الطباعية في تدوينها للعلاقات الفضائية أو الوجودية، أو بشكل أساسي، على مستوى اللغة اللفظية عن طريق اشتغال الضمائر وظروف الزمان والمكان وأسماء الإشارة… فإن الأمارة تسمح بتثبيت وترسيخ علامات رمزية أثناء التلّفظ. وبفضلها نستطيع الانتقال من اللسان إلى الكلام [23]؛ أي من دائرة الملكية الجماعية إلى دائرة الإبداع الفردي بالمعني السوسيري.

الرمز   Symbole
–      قانون الثالثانية وقاعدتها:

    تستدعي الثالثانية، عنصرا ثالثا بين الماثول والموضوع، هذا العنصر هو القاعدة أو القانون؛ أي المؤول الذي يربط بين الأول والثاني. والعلامة تكون رمزا عندما تحيل على موضوعها بموجب هذا القانون وهذه القاعدة. لذلك نجد بورس يعرف الرمز بأنه » علامة تحيل على الموضوع الذي تدلّ عليه أو تشير إليه بموجب قانون، وعادة ما يكون تداعيا من الأفكار العامة. ويحدّد هذا القانون تأويل الرمز بالإحالة على ذاك الموضوع. فالرمز من ثمّة نمط عام أو قانون؛ أي علامة قانونية. وبهذه الصفة، فإن الرمز يتصرّف عبر التوسّط لنسخة ما. ليس فقط لأنه عام في ذاته، بل لأن الموضوع الذي يحيل عليه هو الآخر من طبيعة عامّة غير أن ما هو عام في كينونته يتحقّق من خلال الحالات الخاصة التي يحددها. الشيء الذي يفترض وجود حالات يقوم الرمز بتعيينها، وبالمقابل علينا أن نفهم هنا ما المقصود بمعنى ” الموجود “، هذا الأخير هو الوجود الذي نصادفه في الكون الذي يمكن أن يكون متخيَّلا والذي يحيل عليه الرمز. ممّا يجعل هذا الأخير متأثّرا، انطلاقا من تداعيات الأفكار أو أيّ قانون آخر، بتلك الحالات الخاصة. وهذا يؤكّد أن الرمز سيتضمّن نوعا من الأمارة، مع العلم أنها أمارة من نوع خاص. ومع ذلك فمن الخطأ أن نعتقد مطلقا بأن الحدث أو الفعل الضعيف الذي يُمارَس من لدن تلك الحالات الخاصة على الرمز يفسّر الطبيعة الدّالّة لهذا الأخير « [24]

   يشير النص إلى كون الرمز نمط عامّ، أو قانون تمّت صياغته انطلاقا من العرف والعادة. فهو إذن مرجعي. لأن العلاقة التي يقيمها الرمز بين الماثول وموضوعه تتأسس في مستوى الثالثانية، وهو ما يعني كون العلاقة الرمزية لا يمكن أن تتأسس لا على الاستمرارية ولا على التشابه بين الماثول وموضوعه ولا على التجاور الوجودي بين المفهومين، بل تتأسس انطلاقا من دخول عنصر ثالث (القانون أو التعاقد الاجتماعي والفردي ) قادر على بناء هذه العلاقة .

  فالرموز تُقحم الأفراد داخل أكوان تواصلية ودلالية وتجعل معارفهم متبادلة بفضل الإحالة على قانون مشترك، هذا القانون يتجاوزهم ولا يملكون أيّ سلطة مباشرة عليه.[25]

 إن الرمز لكي يكون دالاّ، لا بدّ من تجسيده في نسخة ما. بمعنى آخر، لا يمكن للعلاقة الرمزية أن تشتغل ضمن السيرورة السميائية بصورة فعلية إلاّ عبر توسّط النسخة. ولا يمكن النظر إلى الرمز كذلك، إلاّ في علاقته بالأيقونة والأمارة،  »إلاّ أن ما يميّز الرمز عن الأمارة هو أن الرمز عامّ والأمارة خاصّة، والرمز لا يعيّن شيئا بينما تقوم الأمارة بالتعيين. والرمز وصفي أما الأمارة فإشارية (…) يحتاج الرمز إلى الأمارة للدلالة على موضوع ما، لكن إذا كانت الأمارة تشير بالأصبع للموضوع، فللرّمز مهمّة الكلام عنه. الأمارة ثنائية، والرمز ثلاثي. والأمارة مادية فيزيائية (…) بينما الرمز ذهني [26] « .

 إن علاقات التحديد المتبادل بين الرمز والأمارات توجد كذلك بين الرمز والأيقونات. هذه الأخيرة، عندما تصير عامّة، تستطيع إنتاج رمز يتجسّد بدوره في أيقونات؛ فالرموز تولد وتنمو وتشتغل انطلاقا من علامات أخرى، وتحديدا من أيقونات وأمارات بصورة متبادلة، ولا يمكن النظر إلى أيّ علامة في ذاتها، فهي لا تستطيع الاشتغال منعزلة، بذلك نستطيع التحدّث عن ملتقى للعلامات، ويعدّ هذا إحدى المبادئ الأساسية في سميائيات بورس .

  فاللغة، بوصفها سيرورة رمزية، تحتوي على عناصر أمارتية وأيقونية. ويقدّم بورس مثالا على ذلك في قوله: » هناك رجُل ما يتجوّل مع طفل؛ أشار الرجل بيده إلى السماء وقال للطفل: ” إن هناك كرة “إن الذراع المنتصبة نحو السماء تشكّل جزءا أساسيا من الرمز؛ وبدون هذه الذراع يتعذّر على الرمز إمدادنا بأية معلومة ما. لكن إذا سأل الطفل الرجل:” ماذا تعني الكرة ؟ ” وإذا أجاب الرجل:” إنها شيء ما شبيه بفقاعة الصابون “، فهو بذلك يجعل من هذه الصورة جزءا من الرمز «[27].

  يفسّر هذا أن الرمز يتمثّل عناصر جديدة ( أيقونية وأمارتية )، وتمكننا هذه الخاصية من إدراك طابعه المميز داخل نشاط السميوزيس. من ثمّة فكل شيء جديد يتم التعاقد عليه ويدخل في التداول التواصلي يتحوّل إلى رمز، والتحوّل إلى رمز يعني الدخول في سياق ثلاثي للسيرورة التأويلية .

   »إذا كانت علاقة الماثول بموضوعه داخل العلامة الأيقونية قائمة على التشابه وإذا كانت علاقة الماثول بموضوعه داخل العلامة الأمارتية قائمة على التجاور الوجودي، فإن هذه العلاقة داخل العلامة الرمزية هي من طبيعة عرفية، فالأمم والشعوب تخلق انطلاقا من تجربتها سلسلة من الرموز تستعيد عبرها التاريخ وتسقط من خلالها المستقبل. وتفهم من خلالها الحاضر «. [28]

   إن الرمز تجسيد لرابط دلالي بين عنصرين، لذلك فهو يشتغل بوصفه سيرورة توسطية تعيد تنظيم التجارب الإنسانية لكي تصبح تجارب عامّة وكونية، »فالرمز يساعد الإنسان في التخلّص من مقتضيات التجربة المحدّدة والمباشرة ويساعده كذلك في التخلّص من الكون المغلق للأشياء المتناظرة. فمن خلال الرمز تتسرّب ذاكرة الإنسان إلى اللغة، وعبره يُدرج الإنسان رغبته ضمن أفق مشاريعه الخاصّة «[29] .      

 يظهر ممّا تقدّم أن التوزيع الثلاثي الثاني للعلامة ( أيقونة وأمارة ورمز ) يقتضي النظر إليه على أنه متوالية توليدية، شأنه في ذلك شأن التوزيع الثلاثي الأول ( علامة نوعية وعلامة مفردة وعلامة قانونية) إذ لا بدّ لكلّ علامة أن تحيل على أخرى وفق قاعدة أو قانون .

البعد التداولي (بعد المؤول) أو التفريع الثلاثي للمؤول  

     ترتكز العلاقة في هذا التوزيع الثلاثي على علاقة المؤول ببقية عناصر السيرورة السميائية، أي مع الماثول والموضوع. ففي هذا التوزيع يصبح المؤول بدوره علامة يحيل العلامة الأولى على موضوعها بنفس الطريقة التي تتمّ بها شروط الإحالة. وينتمي المؤول إلى مقولة الثالثانية، فهو العنصر الثالث الذي يسمح للماثول بالإحالة على موضوعه بموجب القاعدة والقانون. تبعا لهذا التوزيع الثلاثي الثالث الذي ينطبق على المؤول تسمّى العلامة: خبراً (أولانية الثالثانية) وتصديقا (ثانيانية الثالثانية ) وحجة (ثالثانية الثالثانية) .

الخبرRheme
  • إمكانية الأولانية :

إن المؤول، منظورا إليه في أولانيته يسمى خبرا. والخبر عند بورس »علامة مؤوّلها علامة للإمكان النوعي ، إننا ندرك هذه العلامة بوصفها شيئا قادرا على تمثيل أيّ موضوع ممكن كيفما كان نوعه. والخبر قد يمنحنا معلومات، لكنه لا يُؤَوَّل كمانح لهذه المعلومات «.[30]

   يملك المؤول الخبري بنية الأولانية، فهو لا يتجاوز حدود الإمكانات أو النوعيات الموجودة في الماثول لذا فهو لا يستدعي أيّ شيء آخر لكي يقيم علاقة بين الماثول وموضوعه، سوى نوعيات الماثول نفسه التي تعدّ بدورها نوعيات للموضوع. فالخبر بهذه الصورة يمثّل نوعيات الماثول كشيء خاص بصنف الموضوعات الممكنة.[31] فهو علامة تسمح بفهم ما يدلّ عليه الماثول وذلك باستدعاء أصول هذا الأخير لا غير. فعندما أريد أن أوضّح لشخص ما،ما تعنيه كلمة شجرة في الفرنسية مثلا، فإنني أضطرّ إلى رسم هذه الشجرة، وفي هذه الحالة، فإن الدلالة تُدرك من قبل ذلك الشخص انطلاقا من العلاقة التي تجمع بين متوالية الأصوات التي تشكّل مؤوّلا لكلمة شجرة ومجموع المعارف التي استحضرها من خلال رسم هذه الشجرة.[32]

 ولا يمكن أن نحكم على خبر ما بأنه صادق أو كاذب فهو ليس صادقا، وليس كاذبا، إنما وظيفته تكمن فقط في الإشارة إلى الإمكان. فهو لا يملك قيمة الصدق، ما يستطيع القيام به فقط هو الإشارة إلى كون هذه الخصائص أو تلك التي يشتمل عليها الماثول مثلا هي خصائص تدخل في حكم الممكن ليس إلاّ. وهو بهذه الصورة يشتغل بصفته بياضا داخل صيغة أو عبارة ما، أو بصفته فراغا يجب ملؤه للإجابة على أسئلة متعدّدة، من ذلك مثلا:

          »  ………. أحمر«[33]

التصديق le Dicisigne
  • الوجود الواقعي للثانيانية :

  » التصديق عند بورس علامة، تشكّل في علاقتها بمؤوِّلها علامة وجود واقع «.[34] وتؤوَّل العلامة التصديقية على مستوى الثانياتية بوصفها علامة دالّة على الوجود الواقعي أو الفعلي. ويكون المؤوّل التصديقي فعلا أو تجربة تؤسّس لرابط فعلي ملموس بين الماثول وموضوعه ، ويكون هذا الرابط من طبيعة أمارتية. لهذا السبب تقدّم العلامة التصديقية نفسها بوصفها أمارة لموضوعها .

    وتشتغل العلامة التصديقية كقضية منطقية تقيم علاقة بين شيئين ثابتين ( موضوع ومحمول)، وهي بذلك علامة قابلة للحكم، أي أنها تحتمل الصدق أو الكذب، خلافا للعلامة الخبرية التي لا تحتمل لا الصدق ولا الكذب والتي لا يمكن أن تكون فقط إلاّ علامة ممكنة. ويمكن أن نستدلّ على هذا النوع من العلامات بصورة الشخص مثلا مع الإشارة إلى اسمه، فهذه الصورة تشكل علامة مفردة أمارتية تصديقية. ومؤوّل هذه العلامة يتحقّق في القضية على النحو الآتي:

 » هذا الشخص المُمثّلهو السيد فلان«
في القضية :موضوعمحمول
في العلامة :ماثولموضوع
في المؤول :أمارةأيقونة

 تؤول العلامة التصديقية ” هذا الشخص الممثل ” (ماثول) بوصفها أمارة دالّة على “السيد فلان” (موضوع) والمعلومة التي تمنحنا إياها القضية ” هذا الشخص الممثل هو السيد فلان ” هي معلومة تحتمل الصدق أو الكذب .

   وحسب كارانتيني، فإن الآليات التي تعتمدها العلامة التصديقية تختلف عن الآليات المعتمدة في العلامة الخبرية. فالعلامة التصديقية تحتاج دائما إلى وضع الماثول في إطار مقام أو وضعية ملموسة تستلزم على الأقل علاقة بين هذين الطرفين (الخبر والتصديق) (…) وهكذا فالعلامة التصديقية تؤوّل ماثولا، بوضع هذا الماثول داخل سلسلة من العلامات المتجاورة، ويكتسب هذا الماثول دلالته داخل هذه العلامات في تعارضها مع المشابهة. واعتمادا على المثال السابق الذي أوردناه في المؤول الخبري، فعوض أن نرسم هذه المرة “شجرة” لشخص لا يعرفها، فإننا نشير له إلى مقام ملموس تتجسّد فيه شجرة واقعية. مثلا شجرة التفاح الموجودة في هذه الحديقة. إن الأهمّ هنا هو استحضار مفهوم السياق، ولا يهمّ ما إذا كان هذا السياق سياقا وجوديا وواقعيا أو أن الأمر يتعلّق بسياق تذكّري أو سياق لساني خاص [35].     

    ويمكن التمييز داخل العلامة التصديقية بين ثلاثة أقسام: [36].

 العلامة المفردة الأمارتية التصديقية: وهي شيء أو حدث يعتمد على التجربة المباشرة، وتكمن وظيفة هذه العلامة في نقل وتبليغ معلومة ما عن موضوعها لأنها تتأثر فعليا بهذا الموضوع. وتؤوَّل بوصفها أمارة له. ونستدلّ على ذلك بالوضع المحدد الذي تكون عليه وردة الرياح في لحظة معينة وتأثّر هذا الوضع بفعل الاتجاه الذي تأخذه الرياح . 

العلامة القانونية الأمارتية التصديقية: وهي علامة عامة تقدّم معلومات حول موضوع ما. وتتأثر نسخ هذه العلامة القانونية بواسطة موضوعها . فالضوء الأحمر في إشارات المرور مثلا هو علامة قانونية دالّة على أمر بالوقوف في زمان ومكان محدّدين (أمارة )، ويقيم مؤول هذه العلامة علاقة بين ثابتين تتحققان في قضية ما، على النحو الآتي [37]:

            »هذا الضوء الأحمرهو أمر بالوقوف «
في القضية :                        موضوعمحمول
في العلامة :                        ماثولموضوع
في المؤول :                          أمارةأيقونة

  العلامة القانونية الرمزية التصديقية: وهي علامة عامّة (علامة قانونية) دالّة على موضوعها بموجب تعاقد ما (رمز). وتؤوَّل كشيء يتأثر فعليا بموضوعه، وتبلّغ معلومة ما حول هذا الموضوع ( علامة تصديقية ).

الحجة: Argument
  • دلالة الثالثانية : 

   إن المؤول منظورا إليه في ثالثانيته يكون حجة. والحجة عند بورس؛ »علامة تشكّل في علاقتها بمؤولها علامة قانون. وبمعنى آخر فالخبر علامة تُدرك بوصفها تمثيلا لموضوعها اعتمادا على خصائصه فقط. والتصديق علامة تدرك بوصفها تمثيلا لموضوعها من خلال الوجود الواقعي؛ والحجة علامة تدرك بوصفها تمثلا لموضوعها من خلال طابعها ومميزاتها كعلامة «.[38]

   والعلاقة الحجية، هي من طبيعة عقلية، لذلك تجدها إما صادقة وإما كاذبة إلاّ أنها تفسح المجال أمام فحص أسباب صدقها أو كذبها. فهي تمثّل بشكل جيّد مؤوّلها؛ أي استنتاجها[39]. ويستعين هذا الفحص، حسب طبيعة القاعدة التي تربط الماثول بالموضوع، بثلاثة أنواع من الحجج وهي الافتراض والاستقراء والاستنباط .

 إن الحجة تساعد، إذن، على فهم ما يدلّ عله الماثول حينما نضعه في إطار العلاقات التي يقيمها مع بقية العلامات داخل سنن ما، أو على وجه التحديد داخل حقل ينتمي إليه. وإذا عدنا مرّة أخرى إلى المثال السابق، فإنه بإمكاننا أن نوضّح للمخاطَب ما تدلّ عليه كلمة “شجرة” بذكر كلمات معروفة لديه تنتمي إلى الحقل الدلالي الذي تنتمي إليه العلامة اللسانية “شجرة “.[40]       

 

هوامش الدراسة


[1]–Nicole (Evereart_Desmedt): Le Processus Interprétatif Introduction à la sémiotique de C. S. Peirce ; Ed ; Mardaga Editeur, 1990, PP:48-49.

[2]–Ibid, P:49.                                                                                                       

[3]PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, rassembles, traduits et commentes par Gérard Deledalle, ED. Seuil, Collection, L’ordre Philosophique, Paris, 1978, P: 138.                   –

[4]PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 138.                 –

[5]Ibid, P : 139.                                                                                                   –

[6] ـSAVAN ( DAVID ) : “ La Sémiotique de CH . S Peirce “in Langages 58 PP: 14 / 15.    

[7] ـ Enrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE Louvain – la- neuve1984, P :40.       

[8]Ibid, P: 139.                                                                                                    –      

[9] ـPEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit , P :31 .              

[10] ـ  سعيد ( بنكراد ) : ” سيميائيات بورس ” ، مجلة علامات العدد 1 السنة الأولى ربيع 1994 ص : 26 .

[11] ـ SAVAN ( DAVID ) : “ La Sémiotique de CH . S Peirce “in Langages 58 P: 15.                                  

[12] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit , PP : 139 / 140.   

[13] ـ Nicole ( Evereart_Desmedt ): Le Processus Interprétatif, Introduction à la sémiotique de C. S. Peirce ; Ed ; Mardaga Editeur, 1990, P : 53.     

[14] -Umberto Eco : La Structure Absente ED, Mercure de France, Paris, 1972; PP:175/176.                       

[15] ـIbid: P : 140.                                                                                                  

-[16] Nicole (Evereart_Desmedt): Le Processus Interprétatif, OP.Cit, P : 153.       

[17] ـNicole (Evereart_Desmedt): Le Processus Interprétatif, OP.Cit, P : 62.        

[18] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit, P : 153.             

[19] ـIbid ;PP : 155 / 156 .                                                                                     

[20] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit : 154.               

§  ـ  للمزيد ينظر : أمبرتو إيكو في كتابه إنتاج العلامات Production des Signes.  

[21] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 124.              

[22]ـ Enrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE, Louvain – la- neuve1984, P :45.         

[23] ـ Ibid; P :45.                                                                                                       

[24] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit, P :  141.            

-[25] Nicole (Evereart_Desmedt) : Le Processus Interprétatif, OP.Cit, P: 62.         

[26] ـGERARD ( DELEDALE ): COMMENTAIRE, IN Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 235.

[27] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit , P :  162 .             

[28] ـ سعيد ( بنكراد ) : ” سيميائيات بورس ” مجلة علامات العدد 1 السنة الأولى ربيع 1994، ص : 27 .

[29] ـEnrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit, P:47.             

[30] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit, P :  141.            

[31] ـNicole ( Evereart_Desmedt ) : Le Processus Interprétatif, OP.Cit , P: 69. 

[32] ـ Enrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit, P:48.         

[33] ـ Nicole ( Evereart_Desmedt ) : Le Processus Interprétatif, OP.Cit, P: 70. 

[34] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 141.                 

[35] ـ Enrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit, PP:48/ 49.

[36] ـNicole ( Evereart_Desmedt ):Le Processus Interprétatif, OP.Cit, PP:76/ 77.

[37] ـIbid ,PP:76/ 77.                                                                                           

[38] ـ PEIRCE ( Charles Sanders ) : Ecrits sur le signe, OP.Cit , PP :  141 /142.

[39] ـ Eluerd (Roland): La Pragmatique linguistique, Fernand Nathan; Paris 1985.P:59.    

[40] ـ Enrico ( CARONTINI ) : L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit ,P: 49.                                                       

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.